
الراصد : في دولة المؤسسات، لا ينبغي أن تكون محكمة الحسابات هي نقطة البداية في محاربة الفساد، بل الحلقة الأخيرة في سلسلةٍ من الرقابة المستمرة والفعّالة داخل كل قطاع.
فالفساد – كما يقول الخبراء – لا يظهر فجأة، بل هو نتيجة تراكم أخطاء في التسيير وغياب للمتابعة وضعف في آليات الرقابة اليومية.
غياب المتابعة… بداية الخلل
قبل أن تصل الملفات إلى محكمة الحسابات، تمرّ المؤسسات العمومية بمرحلة طويلة من التسيير الإداري والمالي، غالبًا دون رقابة حقيقية من قطاعاتها الوصية.
تُرفع التقارير الشكلية، وتُوقّع الوثائق دون تدقيق، فيتحول العمل الإداري إلى روتينٍ يقتل روح المسؤولية.
ولو كانت هناك متابعة فعّالة في الوقت المناسب، لكان الإصلاح ممكنًا قبل أن يتحول الخطأ إلى فساد، والإهمال إلى جريمة مالية.
الإرادة أولًا… والرقابة ليست عداء
لا يمكن لأي نظام رقابي أن ينجح دون إرادة حقيقية من القائمين على المؤسسات، تقوم على الشفافية بدل الثقة العمياء، والكفاءة بدل الولاء الشخصي.
الرقابة لا تعني العداء، بل هي شراكة في الإصلاح، ووسيلة لتقويم الأداء قبل أن يتحول الانحراف إلى فساد يصعب علاجه.
طاقات بشرية مهدورة
من الملاحظ أن معظم الوزارات تزخر بإمكانات بشرية هائلة وخبرات متنوعة، يودَع عدد كبير منها في دواوين الوزراء تحت عنوان “الاستفادة لاحقًا”، لكن في الواقع يبقون في زاوية النسيان حتى يُحالوا إلى التقاعد، أو ينتشلهم أحد الأقارب إن حالفهم الحظ.
وهذا هدر خطير للطاقات الوطنية، إذ يمكن لهؤلاء أن يشكلوا قوة اقتراح ومتابعة وتقييم تُسهم في ترشيد القرار الإداري وتحسين الأداء العام.
لذا نرجو من جميع المسؤولين عن الموارد البشرية إعداد خطط مستعجلة لإعادة توظيف هذه الكفاءات والاستفادة من خبراتها في الوقت المناسب.
مقاربة حديثة للرقابة والمتابعة
لضمان الفعالية، لم تعد الرقابة تعتمد فقط على التفتيش الميداني أو المحاسبة الورقية، بل على أدوات حديثة تعتمد على التكنولوجيا والشفافية:
1. الرقابة الرقمية (E-audit):
اعتماد نظم معلومات محاسبية موحّدة على مستوى الوزارات والمؤسسات العمومية، تتيح تتبع العمليات المالية لحظة بلحظة، وتكشف الاختلالات في وقتها.
2. المتابعة الذكية (Smart Monitoring):
استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل المؤشرات الإدارية والمالية، ورصد أي انحراف مبكر عن الأهداف المرسومة أو الموازنات المحددة.
3. المساءلة التشاركية:
إشراك المجالس الجهوية والمجتمع المدني في تقييم المشاريع العمومية، من خلال تقارير مفتوحة ومنصات شفافة للنقاش والملاحظات.
4. تعزيز ثقافة الأداء المهني:
لا يمكن لأي نظام رقابي أن ينجح دون موظفين ملتزمين بالسلوك المهني والأخلاقي. فالمتابعة تبدأ من الذات قبل أن تأتي من الرقابة الخارجية.
نحو منظومة رقابة متكاملة
الهدف ليس العقاب، بل الإصلاح الوقائي.
محكمة الحسابات ستبقى ضرورة في كل نظام ديمقراطي، لكنّ وجودها لا يعفي القطاعات الوزارية من مسؤوليتها في المتابعة الدائمة والتقييم الدوري.
حين تصبح الرقابة ثقافة مؤسسية لا ردّ فعل بعد الفشل، يمكننا القول إننا بدأنا نؤسس فعلاً لدولة العدل والشفافية.
“الإدارة الناجحة لا تنتظر محكمة الحسابات لتحاسب، بل تحاسب نفسها كل يوم قبل أن تُحاسَب.”
ومع ذلك، من المهم أن تتحمّل محكمة الحسابات مسؤوليتها في تحديد طبيعة المسؤولية المباشرة وغير المباشرة، ومساءلة كل من تغاضى عن الخطأ حتى تحول إلى فساد.
فلا يمكن إصلاح المنظومة ككل إلا إذا شملت العدالة جميع حلقات السلسلة، من الفاعل المباشر إلى المتساهل بالصمت أو الإهمال.
كان الله في عون الجميع
أحمدو سيدي محمد الكصري
خبير وطني في التوجيه المهني وهندسة التكوين







