لا تخونوا التاريخ مرتين

أحد, 13/07/2025 - 23:09

الراصد : عندما تعود الأمم إلى محطات مفصلية من تاريخها، فإن العودة السليمة تكون بروح وطنية مسؤولة، تنشد الفهم لا التحقير، وتستقرئ العِبر لا لتحاكم، بل لتبني سردية وطنية متماسكة، تتسع لكل أبنائها باختلاف اجتهاداتهم.
وفي هذا السياق، يثير الحديث عن تدخل العاشر من يوليو 1978 جدلاً متجدداً، تتفاوت فيه المواقف بين من يعتبره نكسة وطنية، ومن يراه استجابة اضطرارية لظرف بالغ التعقيد.

بين الانفعال والتأمل
المؤسف أن بعض الخطابات المعاصرة التي تتناول هذا الحدث تنزلق إلى لغة انفعالية، تتنكر لروح المسؤولية التاريخية، وتُقحم في النقاش ألفاظًا لا تخدم الانسجام الوطني، بل تجرح ذاكرة الأمة، وتقلل من تضحيات أبنائها، سواء من كانوا في ساحات القرار أو في ميدان المواجهة.

ومن غير المنصف تقييم حدث بحجم تدخل 1978 خارج سياقه الإقليمي والمحلي المعقّد. فقد نشأ هذا الحدث في ظل استنزاف غير مسبوق بفعل حرب الأشقاء في الصحراء، وهي حرب أثقلت كاهل الدولة، واستنزفت مواردها، وأضعفت قدرتها على التماسك والتنمية، وأثارت قلقًا عارمًا في الأوساط المدنية والعسكرية.

السياق يغيّر الحكم
إن التدخل العسكري يوم 10 يوليو 1978 لم يكن نتاج رغبة في الحكم بقدر ما كان محاولة لاحتواء أزمة وجودية. لم يكن تدخلًا ديمقراطيًا، ولا يستند إلى شرعية دستورية، لكنه – في نظر من خططوا له – جاء تفاديًا لانهيار الدولة.

ومن غير المنطقي اختزال هذا الحدث في توصيفات أخلاقية مثل "خيانة" أو "جبن"، دون وعي بحجم الضغوط الإقليمية والدولية، ولا بالواقع البنيوي الهش للدولة حينها. كما لا يمكن تحميل مجموعة من الضباط مسؤولية مطلقة عن عقود تالية من التحولات، شارك في صنعها لاحقًا فاعلون مدنيون وعسكريون من مختلف المشارب.

منطق التراكم لا الإدانة
ما يُطرح من حديث عن الفساد وتكرار الإصلاح لا يخص مرحلة دون غيرها، بل هو عرض دائم لمعضلة الدولة الوطنية في مجتمعات ما بعد الاستعمار. فالخلط بين ضعف المؤسسات وتدخل العسكر في السياسة نتج عنه منظومة سياسية واجتماعية تحتاج إلى إعادة بناء طويلة المدى.

ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن تدخل 1978 لم يكن متضمنًا لأي تنازل عن التراب الوطني، كما لم يكن القائمون عليه هم من قرروا الانسحاب من الصحراء.
فقد جاءت تلك القرارات في مراحل لاحقة، وفي سياقات مختلفة، اتخذتها سلطات متعاقبة وفق رؤيتها للواقع الإقليمي والدولي آنذاك.

احترام الكرامة... مسؤولية جماعية
من الضروري، عند تناول هذا الحدث، أن نلتزم بأخلاقيات الخطاب العام، وأن نحفظ كرامة من لم يعودوا بيننا. فالضباط الذين نفذوا ذلك التدخل العسكري قد توفاهم الله، ومن غير المقبول أن تُكال لهم النعوت الجارحة، في انتهاك لمشاعر ذويهم ومحبيهم وشرائح واسعة من المجتمع.

وإذا كانت حرية التعبير حقًّا مكفولًا، فإن المسؤولية تقتضي ممارستها بروح وطنية عالية، تحفظ السلم الأهلي، وتصون الذاكرة الجمعية من الجراح المفتوحة.

لسنا بصدد تمجيد أساليب غير مدنية في إدارة الحكم، ولا تبرئة أي طرف من مسؤولياته، بل ندعو إلى التقييم المتزن، والقراءة السياقية، والخروج من منطق الشتائم والتجريح إلى منطق البحث والتحليل.

إن تدخل 10 يوليو 1978 هو صفحة من تاريخ موريتانيا، يجب أن تُقرأ بعيون الباحث لا بلغة المتحامل، وأن تُفهم في سياقها المتشابك لا أن تُختزل في أحكام مسبقة حادة.

فالتاريخ ليس محكمة، بل كتاب للتراكم، والتجاوز، والتعلم من الأخطاء دون تهوين أو تهويل.