تقرير عن واقع قرى الداخل وساكنتها . قرى بلدية هامد ك " عينة أو مثال ".

خميس, 29/09/2022 - 22:16

الراصد: لأول مرة في حياته يأخذ محمود المزارع الثلاثيني قسطا من وقت عمله للتفكير في مستقبله، فلم تعد ظروف تنمية الماشية كما عهدها في أيام الصبا، ولم تعد المحاصيل الزراعية كافية لتأمين أبسط مقومات الحياة.

تنذر ندرة الأمطار في العام الحالي بمجاعة في العديد من القرى التابعة لبلدية هامد بمقاطعة كنكوصة بولاية لعصابه، حيث يقطن أكثر من 25 ألف نسمة في 118 قرية متقاربة داخل هذه الدائرة الريفية.

ورغم أوضاعهم المزرية؛ يصر هؤلاء على البقاء والمقاومة والصبر والتعلق بوطن يحلمون يوما أن يشفق عليهم وينتبه إلى مآسيهم، وحده محمود من قرية بوحبشه بدأ يفكر في الانتقال إلى المدينة والبحث عن فرصة عمل رغم أنه لا يجيد سوى الزراعة بأساليب تقليدية.

"بوحبشه ،اولاد دوره، لحورات، ولد اللعاب، التنكال، تكلوزات ، أندرنيه، أفريفيره وأسمين" وغيرها قرى مأهولة بالفقراء الذين تقوم حياتهم على تنمية القليل من المواشي وعلى الزراعة المطرية؛ وتطرح مشكلة المحافظة على المزارع أكبر تحد لهؤلاء، فعلى طول هذه المنطقة لم تقدم السلطات الموريتانية –حسب هؤلاء- سلكا من السياج لغير النافذين، ولم يحدث أن رممت سدا أو دفعت بإرشاد زراعي.

يقول محمود إنهم مازالوا يعملون بأدوات وأساليب أجدادهم في العصور القديمة، محذرا من هزالة المحاصيل الزراعية هذا العام نظرا لقلة الأمطار.

"لأول مرة في حياتي أفكر في الهجرة إلى المدينة والبحث عن فرصة عمل، فالوضع ينذر بالخطر"، يضيف محمود وعينه على الحقل الذي عاشت منه عائلته لسنوات طويلة.

يعيل محمود أمه وخمسة أبناء وزوجة، يتهددهم الجوع والمرض، مآسي جعلته مترددا بين الهجرة عنهم أو الرحيل بهم، "إذا تركتهم قل لا أجد ما أرسله لهم وسيموتون جوعا، وإذا رحلت بهم ستزداد علي التكاليف في المدينة"، هكذا يردد محمود بصوت عال دون أن يحسم أمره.

مثل محمود يخشى باقي سكان القرية تهديد مجاعة قد تتبلور تفاصيلها مع مرور الأشهر القادمة، خاصة مع غياب أي تدخل حكومي حتى الآن لمساعدة السكان على تجاوز محنتهم.

ثنائية الفقر والمرض تفعل فعلتها في تلك القرى، حيث توجد نقطتان صحيتان فقط في منطقة مكتظة بالسكان ويبلغ قطرها أكثر من 60 كلم، وفي كل نقطة صحية ممرض واحد لا يملك أكثر من إسعافات أولية، في أفضل الأحوال فيلجأ المرضى للتنقل إلى مدينة كنكوصة أو كيفه أو إلى دولة مالي وبتكاليف باهظة.

وليست الوضعية التعليمية أحسن حالا، بل ربما الأسوأ على الإطلاق إذ المدارس في أغلبها بدائية تجمع قسمين في قاعة واحدة بعد أن تم تسريح مئات التلاميذ خلال السنوات الماضية بعدما لم يجدوا من يدرسهم، ويعمل المعلم هناك في ظروف مضنية فالأدوات منعدمة والحجرة خربة وظروف الحياة من حوله قاسية.

وفي السنوات الأخيرة حاولت الدولة معالجة هذه الاختلالات من خلال بناء إعدادية في قرية هامد، لكنها ظلت في نقص حاد على مستوى الأساتذة، فضلا عن الافتقار للوازم والمعدات الضرورية مما اضطر الأهالي إلى توجيه الكثير من التلاميذ إلى إعداديات أخرى.

وحسب السكان المحليين فإن أم المشاكل في هذه القرى والتي تشغل بال الكبير والصغير وتؤرق الجميع وتضربهم في الصميم هي مشكلة المياه.

على الرغم من أن هؤلاء السكان يفتقرون إلى كل شيء ويعيشون على هامش الحياة؛ فهم لا يطلبون من الدولة الموريتانية أكثر من توفير مياه صالحة للشرب ،فالقرى المحاذية للحدود تشرب من المياه الصافية في دولة مالي عبر عربات تجرها الحمير من مسافات بعيدة والقسم الآخر من هذه القرى يشرب من مياه ملوثة تغرف من حفر طينية حفرتها سواعد الرجال في الأودية والسهول.

تضطر عيشه لقطع عشرات الكيلومترات يوميا من أجل جلب مياه أقل تلوث من بئر بوحبشة، في روتين دأبت عليه منذ عدة عقود، "لا أحد يسأل عنا ولا نجد من يتفقد أوضاعنا" تقول عيشه التي تشي نظراتها وجسمها المترهل الذي أنكهته مكابدة الحياة أنها رغم كل شي، متمسكة بوطنها، معتزة بانتمائها.

ويتهم ناشطون شباب من أسموهم "سماسرة السياسية" بخداع هؤلاء السكان في كل موسم انتخابي، حيث يقول الناشط علي ولد محمد "إن هؤلاء المساكين لا تستجد رابطتهم بهذه الدولة إلا حين يهرع زمرة من السماسرة السياسيين ومصاصي الدماء في مواسم الانتخابات لخداعهم ومصادرة إرادتهم فيملؤون لهم الصناديق ويبيعونهم في سوق النخاسة، وينصرفون فإذا حان الموسم التالي أعادوا الكرة واحكموا فصول المؤامرة مجددا" حسب قوله.

ويضيف علي الشاب الذي أنهى لتوه مرحلة الباكلوريا ويحلم أن يصبح زعيما حقوقيا وسياسيا يحرر المنطقة من ما أسماه "رق التهميش": "صحيح أنهم علقوا آمالا كبيرة على الحكم الغزواني وصبروا على المواعيد وحملات الإعلام الرسمي لكنهم لم يظفروا لحد الآن بشيء يغير حياتهم إلى الأفضل".

تختلف طموحات علي عن طموحات سكان القرى خاصة من كبار السن، لا يريد هؤلاء مستوصفات متقدمة تحوي جميع وسائل الصحة العمومية، ولا يطلبون مدارس مكتملة في أبنية مقبولة، ولا يطمعون في قيام السلطات بمدهم بالوسائل حتى يفجروا ثورة زراعية.

إنهم يريدون فقط من ثروات بلادهم شربة ماء لأطفالهم وللقليل مما يملكون من مواش، يريدون فقط أن يكفوا أيديهم عن طلب الماء لدولة مجاورة، يريدون أن يشربوا من الماء دون منة من أهالي بلد آخر.

يتحدث الشاب للسكان عن حقهم في الضمان الاجتماعي، وفي التامين الصحي وكذلك عن حقهم في الحصول علي الكهرباء، أو الحصول على مواد غذائية بأسعار معقولة، وإن يجد بعض الآذان الصاغية لما يقول لكن الغالبية تخشى من "خطاب التمرد على السلطات"، هكذا تم تدجينهم على مدار سنوات يقول علي.

ويضيف: "إنهم لاجئون في وطنهم، محرومون في بلدهم، مطرودون من ثرواتهم".

ومع ذلك فإن أنات مرضى "اسمين" وبكاء أطفال "افريفيرة" من العطش والجوع وزفرات سكان "تكلوزات" من الحرمان وضنك العيش كل ذلك سيصنع التاريخ فترتسم الابتسامة يوما على شفاههم فيعيشون بكرامة ويتذوقون طعم خيرات وطنهم؛ -هكذا يؤكد الشاب الثوري-فالتغيير حتمي وعجلة التاريخ تتحرك باستمرار، حسب رأيه.

بقلم / الشيخ ولد أحمد لمجلة مجابات