أحمد هارون ولد الشيخ سيدي يكتب

اثنين, 05/07/2021 - 09:31

الراصد: مقال كتب قبل عقد من الزمن حين كان المستشار يقولة"لنْ ينفع التشاؤم والاستسلام، لأن حركة التاريخ يوجد بها دائما أفقٌ للأمل وسُلـَّم للصعود. وبمجرد أن تقتنع الشعوب وقواها الحية بوجود ذلك الأفق في سمائها وترى السلالم الموصِلة إليه، فإنها تحطم الحواجز وتفعل المستحيل من أجل الصعود إلى ذلك الأفق. أما إذا فقدت الأمل وانقطع رجاؤها في الإدارة والسياسة والنخب ولم تعُد تعرف كيف تتحرك وإلى أين تتجه، فإن المَثل البيضاني يقول: "الدار الخالية، اقطع منها ما يليك"....."

اقتراب وبلوغ الدولة الموريتانية نصفَ قرْن من العمر، ازدادت حِدّةُ الأفكار والخلاصات التيْـئيسية المُشَكِّكَةِ في قدرتها على النهوض والرسوخ، وعلا صوتُها على حساب التشخيص التقليدي والتقييم الجزئي المنادي بإصلاحات سياسية وترتيبات مالية وإدارية عادية.

ولم تقتصر تلك الذِّهنية السوداء على ثقافتنا الشفهية، بل امتدت منها وانتقلت إلى ثقافتنا السياسية المكتوبة، المعروفةِ بشُحِّها وندُورها.. حتى إن كاتبا واسعَ الخَيال، مِثلَ مُحمَّذن باب ولد أشفاغ، لم يجـِد، في روايته السياسية “وادي النعام” وتصوُّرِه الافتراضيِّ لموريتانيا سنة 2030، أيَّ أمل للبلاد، سوى الإغراقِ في المحيط الأطلسي، تتويجا لثمانين عاما من التعاطي السياسي المنحَط والتبادل الجيلي العقيم.

أما محمد يحظيه ولد ابريد الليل، فإن مستقبلياته واستراتيجياته طافحةٌ بالإشارات والإيماءات المنبِّهة إلى وجود تشوُّهات خِلقية وعَقَبات ذاتية وموضوعية، تجعل المشروع الموريتاني أقربَ إلى حُلْم مَنام، يصعُب التعويل عليه في محاربة الفقر والتخلف وتحقيقِ الاستقرار وضمان المستقبل. يقول في سلسلته موريتانيا وأزوادْ: “إن الكيان المعنويَّ المسمَّى بالدولة الموريتانية، لم يجد قط تغذية تقوي موقعه في الأذهان ولم يسجَّل له مجد في سِجلّه”.

وبالْمِثْل، وبمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال موريتانيا، حَكَمَ أستاذُ الفلسفة والكاتبُ الشاب أبو العباس ابرهام، قائلا في مستهَلّ “كرونولوجيا” عَدَمِيَّة رهيبة، بعنون “يوبيل التقهقر”: “إنه على رغم من التقدمية والسرعة التي طبعت عصرنا، إلا أن حصيلة البلد منها، في خمسينيته هذه، كانت ضَنْكًا”.

ولمَّا سُئل إسحاق الكُنتيُّ أيُّ الأحكام السياسية أقربُ إلى منظومة القيم التي تحكم المجتمع الموريتاني، لم تُثنِه فصاحتُه الأدبية وصرامتُه اللفظية عن الخروج عن الموضوع والانجرار لاشعوريا (أو شعوريا) إلى مَغبَّة التعرُّض للحالة المزمنة التي يعيشها مجتمعُه ودولتُه، في خَلْط مَريج بين مَن يُعاش في أكنافهم مِن حُكّام وإدارة ودولة، ومَن يعيشون في ظل ذلك من قبائل وأعراق، لم يَزَل تناغمهم الجَمعي في هشاشة وضعف، حتى صاروا أشبه بـ “غيتوهات” تجبرها الشرطة على شيء من التعايش المؤقت داخل الحي الواحد. يقول الكُنتيُّ في مقابلة مع شبكة الرواد الثقافية يوم 25-12-12: “(…) أما أنظمة الحكم التي تعاقبت على المجتمع، منذ دولة الاستقلال، فهي تتشابه من حيث عجزُها عن تقديم مشروع مجتمعي يحدِّد هويةَ وثقافةَ ومستقبلَ المجتمع… كانت مجرد إدارات تُصَرِّف الشأن اليومي لِـمُتساكنين يُفرض عليهم السلم الاجتماعي ضمن “غيتوهات” قبلية وعرقية”.

أما السبُّ الشفهي للدولة واللعنُ الصريحُ لعموم المجتمع، خصوصا مجتمع “البيضان”، المُحَمَّل وِزْرَ كل فشل أو ظلم أو زيْغ على هذه الأرض، فحدِّثْ ولا حَرَجٌ، يستوي في ذلك الجاهل والمتعلم وحتى المثقف.

وخِلافا لما يدِبُّ اليومَ في حواضر المغرب العربي الأخرى ومِصرَ والجزيرةِ والشامِ مِن تفاعلٍ جدَليٍّ وسعيٍ إلى استيعاب المنطلقات والآفاق المحلية والإقليمية والدولية الجديدة وبروزِ تكتلات شعبية ونخبوية وأيديولوجية كبرى… مازال الموريتانيون يفتقرون إلى نشاط سياسي وحضاري مُناسبٍ وفَعَّال، لكسْر حالة اليأس والتشرذم والارتباك التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود، بشَعْبها ونُخَبها ومؤسساتها وسلطاتها الحاكمة ومعارضتها.

وإذا كان التفسير التقليدي الذي أتيح للكثير من الموريتانيين إدراكُه مباشرةً، هو قصورُ وتقصيرُ الأحكام السياسية المتعاقبة على حكم البلاد عن وضع إستراتيجية وطنية ومجتمعية واضحةِ المعالم وطويلةِ الأمَد وذاتِ رِهاناتٍ وطموحاتٍ كبرى، مثلَ بناء دولة المؤسسات والتخلُّصِ من براثين البؤس والتخلف وإرساءِ دعائم الأمن القومي والغذائي، فإن تفاسيرَ أخرى أكثر عمقا وراديكالية، بدأت تتسرب إلى الذهن السياسي الموريتاني وتحْظَى بقبول واحتضانِ العديدِ من نـُخَب البلاد وأطرها.

مفادُ ذلك، أنه بَدَلاً من توجيه النقد وإلقاء اللائمة على الأحكام والحكومات العاجزة وتحميلِ الطبقة السياسية والنُّخب المدنية والعسكرية والقُوى الشعبية ما لا يطيقون، وبَدَلاً من إضاعة الوقت في المحاولات اليائسة لتحديث البلاد وتحصينها بنفس الأشكال والأدوات السياسية المُوغِلة في البدائية والارتجال، فإن الوقت قد حان لوضع الدولة الموريتانية نفسِها في قفص الاتهام والسؤالِ عن مُؤهّلاتها وقدْرتِها على إنتاج واستيعاب حَدٍّ أدنى من التنمية السياسية والاقتصادية والبشرية.

وأيـًّا كانت مقاييس هذا الطَّرْح ودعائمُه، فإن عندنا من الظواهر والحقائق ما يدعو لحَمله مَحملَ الجِد ونقاشِه بتجرُّد وانفتاح، لا للتشاؤم وإضافة قراءات وتحاليل سَوْداوية أخرى، وإنما لتوضيح الصورة واستكمالها، خروجا من تلك الحلقة المفرغة التي نلفّ فيه ونَدور، وبحثا عن بعض المداخل الموضوعية لإحياءِ الأمل وإنارةِ المستقبل والمراجعات الكبرى.

وفي ظل الغياب التام لمدرسة أو مدارس سياسية موريتانية، يمكن التعويل عليها في النقد واستجلاء المعاني والدلالات المنهجية، وفي ظل غيابٍ شبه تام للمعطيات الملموسة المجسَّدة في أرقام وإحصاءات ووثائق وبحوث علمية ذات مصداقية، يبقى من اللازم التعامل مع المادة الشفهية والإعلامية ونبض الشارع والظواهر العامة والحوارات الخاصة وما يكتبه، من حين لآخر، بعض المهتمين والعارفين.

والحَقُّ، أن الانطباع سائدٌ لدى أجيال من الموريتانيين بأن دولتهم لا تتطور وأنها عاجزة عن أداء أبسط الوظائف المنتظرة منها والمعهودة – عادة – للدول، بما في ذلك دويلات أكثر اصطناعية، بَدْءًا بتنظيم المرور وتهذيب المرافق العمومية وبيوت الله، مرورا باستغلال الأراضي الزراعية الخصبة والثروات الحيوانية والسمكية الهائلة والاستفادة من أكبر معدِن للذهب في إفريقيا وأكبر معدِن للحديد في العالم، وانتهاءً بالإنتاج العلمي والتوثيق وتثبيت هوية الدولة ومَرْجعية المجتمع وأسس الأمن القومي والغذائي.

ولنأخذ، على سبيل المثال، الإدارة الموريتانية.

إن قِشرة الحداثة والأنموذج البيروقراطي الذي تركه المستعمر وخلفاؤُه الأولون من جيل الاستقلال، لم يحْظ يوما بالتطوير المطلوب، لإطالة نفـَسه وتوطينه وملاءمتِه مع المتغيرات الديمغرافية والحَـضَرية والسياسية والاقتصادية… ومع تقدُّم الزمن وتراكمات الإهمال والارتجال والفساد والتقطُّعات المتكررة، أصبحت الإدارة الموريتانية الناشئة شِبْهَ متوقفة عن الإنتاج وخدمة الناس، فضلا عن التطوّر والتمدُّد والعصرنة، لذلك ترى مستخدِمِيها يتوجهون اليومَ مباشرة إلى رئاسة الجمهورية أو إلى الوزراء وكبار المسؤولين، إن تيَسَّر ذلك، من أجل تقديم شكاوى بسيطة والتماس خدمات روتينية، داخلة في اختصاص كتابات الضبط والبلديات وإدارات محلية ومركزية عادية. إنه مستوى من الفوضى والرداءة والضعف، لم يعُد يُجدي معه الترقيعُ والحلولُ الآنيّة التكتيكية، ولا تكفيه الصرامة والتقشف ومحاربة الفساد.

ولا يوجد في تاريخ الإدارة الموريتانية إصلاح إستراتيجي، إلا ما كان من خضوع البلاد، سنة 1985، لمؤسسات ابرتون وودز وانتهاجها ما يسمى في أدبياتهم بسياسات التقويم الهيكلي ومسلسل الخوصصة المشؤوم، الذي تخَلّت الدولة بموجبه عن وظائفها الحيوية وباعت مؤسساتها وشركاتها وعقاراتها بثمن بخس، حتى كادت شركة “اسنيم” تُباع سنة 2007. ولم يبق ما يُقدَّم للبيع اليومَ سوى الساحات الحَضَرية والمنشئات السكنية القديمة. فكان المواطن العادي والقطاعات الحيوية التي تمسه أكثر، كالتعليم والصحة والنقل والمواصلات هم الضحية الأولى للسياسيات المذكورة.

صارَ التعليم سلعةً مغشوشة وفاسدة، تُباع للأسر الموريتانية بأسعار تقارب وتزيد على مثيلاتها في الولايات المتحدة واليابان والخليج. فإذا استثنينا عددا محدودا جداً من المدارس الأجنبية ومدارس التجار، التي لا يلجها إلا أبناء الأغنياء، ولا يرضى الإ الأصيل بتدريس أبنائه فيها إلا كرها، فقد فقدَ التعليم الموريتاني قيمته ومعناه، لا تهذيب ولا تكوين ولا حضانة لرواده ولا أملَ لخريجيه في التشغيل الكريم.

أما الاقتصاد، فإن الدائرة والجهاز الماليين للدولة عاجزان، بشهادة الاقتصادي الكفء ووزير المالية السابق أحمد ولد مولاي أحمد، عن استيعاب نمو ذي بال أو زيادة في الريع تُذكر. أما التنمية، فأنى لدولة كهذه أن تضع خطة مجتمعية وتحدث تنمية دون إعادة إعمار جدية وجريئة للقطاع العام المتبخِّر؟

الخطاب الوطني والمادة السياسية والإعلامية.

إذا استثنينا خطاب منسقية المعارضة وشِعارَ الرحيل، الذي خَفَتَ كثيرا وفشل ولم يُستبدل حتى الآن بغيره، يبقى الخطابُ السياسيُّ الوطنيُّ والقوميُّ والدينيُّ والثقافي الوحيدُ، الموجودُ اليومَ على الساحة الموريتانية، هو خطاب “إيرا” مبادرة انبعاث الحركة الإنعتاقية، التي يرأسها بيرامْ ولد الداه ولد اعبيدي.

إن المُنقِذ المفترَض والبديلَ المحتمل، ليسا في الظاهر سوى الكيانات السياسية الناشطة اليومَ ومنذ وقت في البلاد، خصوصا المعارضة منها. وتلك أمة قد نَفَضَ كثير من الموريتانيين أيديهم منها، لا لنقص في التجارب والمؤهلات الشخصية والنيات الحسنة والخلفيات التكوينية لبعض قادتها وأفرادها، وإنما هو خلل بنيوي مُزمن، يعتري تلك الطبقة في نـُظُمها وخُطَطها ووسائلها، وأزمة ثقة حادة في أساليبها ومواقفها وتكتيكاتها، إضافة إلى حالة التشتت والتنافر التي تـُعيق أداءها وتـُقزِّم أحجامها وطاقاتها.

فلو كانت المعارضة تتقارب وتتكاتف، متجهةً نحو بناء كتلة كبرى فاعلة وصلبة ومستقرة، قادرة على تأطير الجماهير وتزويد الحكام والرأي العام بتصورات وأدمغة وأطر بديلة وإثراء الساحة السياسية والمكتبة الوطنية بإسهامات مرجعية مكتوبة ومشروعات عملية واضحة، على أساسها ونقارن ونحاسب الحكام ونستجلي المعاني ونستنير في وضع أسس الحوار… لَكَانَ الأمل فيها أكبر.

غير أن الواقع عكس ذلك. فالكادحون والإخوان المسلمون والناصريون ومسعود وأحمد… جميعُهم كانوا تحت راية حزب واحد أولَ الأمر، قبل أن يبدءوا التفرُّق في أحزاب ونبْتات سياسية هشة وغير مستقرة.. وقد بلغ الحد ببعض هؤلاء القادة والأحزاب أن صوَّت ضد الآخر في جولات انتخابية حاسمة، كما اتخذ البعض الآخر مواقف مجانبة لمواقف رفقائه وموهِنَة لمنسقيتهم ومَركزهم.

ولو نظرنا إلى دول الجوار، لرأينا في الأحزاب والشخصيات السياسية ما لا نراه هنا، حيث اليمينُ السياسيُّ هناك واليسارُ والوسطُ وحكوماتُ الظِلّ الجاهزة والشخصياتُ المرجعية في مختلِفِ المجالات عند كل حزب، ولـَوجدنا المكتبات الحزبية الزاخرة بالتآليف والدراسات المرجعية والمشروعات العملية الجاهزة، زيادة على المجلات والجرائد الحزبية العريقة وأرشيف من الوثائق والمحاضرات والندوات العلمية والفكرية المدوّنة.

أما الأحزاب والشخصيات الموالية للنظام، فقليلٌ مِن الموريتانيين مَنْ يستمع إلى كلامهم أو يسترشد به، وإن جَوَّدُوا سورة لقمان! مع أنهم، كغيرهم، قد يقولون حقا ويُدلون بآراء ذات قيمة… إلا أن علم الناس المسْبقِ بضعف استقلاليتهم وإشراكهم وتأثيرهم في القرار، يحول بينهم وبين قلوب وآذان الناس.

وللمسألة هنا جذورٌ متأصلة، فالتقاليد السياسية وثقافة الحكم المركزي، الجديدان، أو حتى الغريبان، على المجتمع الموريتاني، لم يترسّخ منهما في ظل الدولة الحديثة إلا الأبوية والشمولية. فمنذ إلغاء دستور 1958 ذي الطابع البرلماني التعددي وإقرار دستور 1961 ذي الطابع الرئاسي وتعديل 1965 القاضي بأن حزب الشعب هو الحزب الشرعي الوحيد في موريتانيا، مرورا بالأحكام العسكرية الشمولية، والبوليسية أحيانا، وانتهاء بدستور 1991 ذي الطابع شبه الرئاسي، والمنسوخ حرفيا من دستور الجمهورية الخامسة الفرنسي، دون ملاءمته مع طبيعة وموازين القوى المحلية… أصبح رؤساء الجمهورية يهيمنون بشكل معيق وجارح على مختلف دوائر الفعل السياسي والاقتصادي والإداري والعسكري… ليبقى البرلمان مستغرقا في النوم معظم وقته، ينتظر فرصته الخاطفة لإلقاء خطب لا تؤثر في قرارات وتوجهات السلطة التنفيذية. أما الوزير الأول والحكومة والإداريون والحزب الحاكم، فإن التمجيد والتهليل باسم رئيس الجمهورية وبرنامجه وإنجازاته، يعفيهم من بذل أي جهد في تحمل المسؤولية والتفكير والمبادرة والإنتاج.

وحتى لو بدا بعضُ الرؤساء، أولَ أمرهم، متواضعين أو زاهدين، أو أصحابَ شخصيات وطموحات محدودة، فإن القواعد الدستورية وموازين القوى تدفعان بالموريتانيين، حكاما ومحكومين، إلى تكريس الأحادية. يستوي في ذلك تسيير الدولة ومرافقها وقيادة الأحزاب ونشاطاتها. وهذا مما يسد الباب أمام الطاقات الراغبة في تسجيل بعض الإبداعات والإنجازات وخدمة الدولة والمجتمع.

تجديد الطبقة السياسية.

واللافت، أنه لمَّا أرادت جهاتٌ ما تجديدَ الطبقة السياسية وإنشاء حزب أو أحزاب للشباب، خابت النتيجة: شباب مثقفون ينتقدون الكبراء والسابقين دون أي سند موضوعي أو مشروع بديل أو خبرة، أو حتى خطابة، إلا كلمةً واحدةً يكررونها ويركزون عليها، وهي “تأييد برنامج رئيس الجمهورية الانتخابي”. هذا البرنامج الذي أعده صاحبه قبل أربع سنوات، في ظروف معينة ولمهمة محددة، هي الفوز في الرئاسيات وقد فاز.

فما معنى أن تتأسس ناشئة سياسية أخرى من أجل دعم هذا البرنامج؟ مع أن هموم الدولة وأوليات رئيس الجمهورية نفسِه والمشاكل المطروحة أمامه اليوم، بعيدة كل البعد عما كان عليه أيام وضع البرنامج المذكور، بل إن الرئيس لن يستكفي بهذا البرنامج في حال خوضه اليومَ سباقا انتخابيا جديدا.

التحدّي الطائفيُّ والعِرقيُّ.

لعل أكبر مشكل على الإطلاق يهدد ويتحدى الدولة والمجتمع الموريتانييْن، عبر تاريخهما القصير، هو المُشكل العرقي. ذلك أن النخب التي أخذت مِشعل مكافحة الرق أو الدفاع عن حقوق طوائفها العرقية، لم تعُد تستطيع الحصول والحفاظ على شرعيتها بمجرّد الاكتفاء بالطرح المعتدل والجوانب الحقوقية للموضوع، بعد أن أصبح هذا الأخير محَلّ اتفاق الجميع ولم يعُد الاعتدال يجد مَن يُنصت له، لا من أبناء الطائفة المدافَع عنها ولا من الطبقة السياسية ولا الدولة نفسِها، مما حدا بالأذكياء من تكتيكيي هؤلاء إلى ركوب مَوجة الهجوم والتحدي.

وليس الهجوم والتحدي والإصرارُ على تقسيم مجتمع البيضان إلى بيض وسود، أو بيضان وحراطين وبربر، وتقسيم المجتمع الموريتاني إلى عرب وعجم، مُفَرنَسين ومُعرَّبين هو عمق الخطر… بل إن الأخطر من ذلك كله، هو وصول الرسالة وحدوث ردّة الفعل الثانية، التي ستحدثها حتما طائفة ضد أخرى. ذلك أن ردة الفعل أقوى دائما من الفعل نفسِهِ، خاصة إذا كانت عرقية وعنصرية. وقليلا ما تكون ردة فعل الشعوب واعية، بل همجية في الغالب، يقودها جُهلاء عنيفون مسعورون. والنتيجة معروفة مدمِّرة للجميع. وأول ما تحلِقه الفتنة هم رؤوسها.

صحيح أن المجتمع الموريتاني يكره العنف ويعطف بعضه على بعض، وأكثر طوائفه وشرائحه سلمية وانشغالا بشأنها اليومي، هي شريحة الحراطين. إلا أن القيادة والمبادرة للنخب والجماهير والأقلية المسموعة، وليست للجمهور. بل إن الجهات الخارجية هي مَن ينفخ عادة ويعزف على أوتار الفـُرقة في مثل هذه الدول الضعيفة، ليدخل الهمجُ الهامجُ في معارك لا يعرف كيف ولماذا بدأت ولا كيف تنتهي؟

كانت الطائفية في موريتانيا أولَ ما ظهرت في موريتانيا ذاتَ لبوس ثقافية، كمعركة التعريب وأضرابها، تارة تهدأ وتارة تحتد إلى مرحلة القتل والانقلابات، ثم تحولت القصة بعد ذلك إلى معركة حقوقية عادلة وهادئة، سرعان ما انقلبت إلى خطاب عنصري شنيع، مع بداية المِهرجانات والزعامات الحزبية والتوظيف السياسي للقبيلة والعرق وكل شيء في ديمقراطية التسعينيات، لكن بدون تغذية داخلية أو خارجية آنذاك. ثم أتى بعد ذلك الوضع الحالي الذي نحن فيه.

ومع أن الوضع كله لا يخلو من سطحية وميل إلى السلم، إلا أن نظرة في الخط البياني لمضاعفاته المتنامية والدور الذي يمكن أن يلعبه الأجانب والخبثاء، وحتى بعض الجهات السياسية الداخلية، المحسوبة على الاعتدال والمسؤولية، والمواقعُ والمنتديات الإلكترونية ووسائلُ إعلام أخرى، والتفاعلات الحادة والاستفزاز المتبادل يوميا في الشارع ووسائل النقل… كل هذا لا يبعث على الاطمئنان.

وهل تقود الفوضى وانعدام الثقة والتحدي والعنصرية البغيضة والأحكام المسْبَقة على المجموعات الشعبية الأخرى وانعدام الضوابط والحدود في الإعلام والقانون إلى شيء غير الحرب الأهلية؟ سِيَما وأنه لا دولة مدنية أو وطنية أو قومية أو دينية قوية قد تأسست بَعْدُ أو في طريقها إلى التأسيس.

وبقية الحقيقة، أن كل فرد من أفراد هذا المجتمع المسمى بالبيضان، سواء مَن كان منهم داخلَ موريتانيا أو خارجَها، يرى في مخيلته الخلفية أن هذه بلاد بيضانية. كما أن كل فرد من أفراد المجموعات الأخرى، يرى أن البيضان بدو دخلاء غزاة مفسدون وقناصة عبيد. والكلام هنا على الحس الجمعي وما يراه عامة وبسطاء كل مجموعة، مما لا مجال فيه للحق والمنطق والدين. وهذا – في حدِّ ذاته مُكوِّنٌ من مكونات حرب أهلية، أو حتى حرب إقليمية عرقية عنصرية.

إنه مشهد أليم يفرض علينا قراءته وتحليلَ مآلاته وفروضه… فالخطاب نشِطٌ والأسلوب رائجٌ ومتنامٍ، خصوصا في أوساط الشباب الحاصل على حظ من التعلُّم والتوظيف.

منظورٌ نقديٌّ ثانٍ.

تتقدَّم جماعة أخرى، من ذوي الشأن السياسي والثقافي بتفسير وحَلٍّ تبسيطييْن جاهزين، لما عليه البلاد من حال موصوفة أعلاه. يتلخصُّ ذلك في إرجاع كل مشكلات ومآزق الدولة والمجتمع إلى وصول الجيش إلى هرَم السلطة ودخوله معمعانَ السياسة. وهذا ما يراه ويتبنَّاه أنصار الحكم المدني الأول والإخوانُ المسلمون وبعضُ النُقّاد الشباب، المنحدرين من الجيل الأول من أبناء برجوازية نواكشوط المتعلمين (إن جاز الوصف)، وكثيرٌ غيرُهم من ذوي المَنزَع الليبرالي، إضافة إلى العديد من الأطر غير المسَيَّسين… كما يتبنى هذا الموقفَ أيضا، محمد المصطفى ولد بدر الدين وحِزبُه، مع أن الأخير، يضيف إلى حكم العسكر الحكمَ المدنيَّ الأول، الذي يعتبره مرتبطا بالمستعمر، وبالتالي كِلا النظامين غير وطني، والمشكل، في رأيه إنما هو افتقار البلاد منذ استقلالها إلى حُكم وطني، كما صرّح بذلك ذاتَ مَرّة، في مقابلة صحفية، مع جريدة الأخبار في إحدى المناسبات المخلدة للاستقلال.

تلك النظرة، وإن كانت تبسيطية ونمطية إلى حد ما، تصطدم بوقائع وحالات عالمية وتاريخية أنجز فيها قادة عسكريون ما لم يُنجزه غيرهم، إلا أنها نظرة تتطلب، هي الأخرى، وتستحق نقاشا مستقلا عن هذا كله. وذلك لانتشارها بين الناس، داخلَ موريتانيا وخارجَها، ولارتباطها أيضا بمؤسسة وطنية خطيرة وحاسمة، لم تزل تشكل العماد الأول، أو الوحيد، الذي تعتمد عليه الدولة والمجتمع الموريتانيان.

غير أن “عقدة الجيش والسياسة” ربما تنحلُّ قريبا، عندما يكون محمد ولد عبدالعزيز آخر عسكري يلي أمْرَ الدولة دون المرور بمحطة مدنية كبرى. لقد تبيَّن من حادثتي اغباغبو والقذافي وغيرهما، أنه لم يعد من السهل، في الظرف الدولي والإقليمي الجديد، انقلابُ الجيش على سلطة مدنية منتخبة. بل إن الانقلاب العسكري الأخير لاقى من الصعوبات ما تشيب له الولدان.

صحيح أن العسكري ليس مهيئا في العادة والظروف الطبيعية للحكم وتدبير السياسة والإدارة والاقتصاد… وليس ذلك مِن شأنه. وصحيح أيضا أن شخصا مدنيا سيتولى منصب رئاسة الدولة في موريتاني، عاجلا أو آجلا. لكن الإشكال إشكالُ مؤسسة وقوة وكتلة وليس إشكال فرد عسكري أو مدني. وبعبارة أخرى، هل تحت سماء موريتانيا قوة سياسية مدنية متماسكة، مهيأة لإمساك تلابيب القوى والأجهزة الأخرى والحركات والقبائل والأعراق؟ وهل من الممكن أن يتحقق مشروع سياسي أو حضاريٌّ في موريتانيا دون موافقة ومباركة الجيش؟ وبالتالي هل سيتأتَّى لذوي الخلفيات السياسية والثقافية والمؤسسية المعادية تقليديا للجيش أن تحكم حُكما فعليًّا؟ وهل اقتنع العسكريون، والمدنيون أيضا، أن الرئاسة بالوكالة مستحيلة، بعد حادثة سيدي ولد الشيخ عبدالله ومحمد مُرسي وغيرهما؟ كيف ستقتنع قوى مدنية وأخرى عسكرية بضرورة التخطيط والتعاون الواقعي والمتوازن بينهما، والتحضير من الآن لإبداع سياسي وحضاري أكثر عمقا ومعنى، في ضوء رئاسيات 2019، إن قُدِّر لها أن تُنظَّم؟

التشاؤم والتفاؤل.

لنْ ينفع التشاؤم والاستسلام، لأن حركة التاريخ يوجد بها دائما أفقٌ للأمل وسُلـَّم للصعود. وبمجرد أن تقتنع الشعوب وقواها الحية بوجود ذلك الأفق في سمائها وترى السلالم الموصِلة إليه، فإنها تحطم الحواجز وتفعل المستحيل من أجل الصعود إلى ذلك الأفق. أما إذا فقدت الأمل وانقطع رجاؤها في الإدارة والسياسة والنخب ولم تعُد تعرف كيف تتحرك وإلى أين تتجه، فإن المَثل البيضاني يقول: “الدار الخالية، اقطع منها ما يليك”.

لنْ يُجديَ أيضا التفاؤلُ المفرط والتجاهلُ لما عرفه ويعرفه مشروع الدولة من تعثراث كبرى، لا يوازيها إلا المتغيرات الهائلة التي تحصل داخل المجتمع الموريتاني ومحيطه والعالم بأسره. والغريب، أن المتعاقبين على السلطة لا يكاد أحد منهم يجهَل أو يُهمل مَجملَ هذه المعطيات وغيرها في خُطبه وتصوراته، خصوصا في بداية ولاية أحدهم الأمر، لكن قَلَّ منهم مَن لا تُعْمِهِ مشروعاتُه وإنجازاتُه الفنية وكلامُ الموالين والمجاملين والأحداث اليومية عن الأهمّ: وهو المشروع السياسي نفسه والعقيدة الاقتصادية والخطة التنموية والفريق المعاون والنظرة الإستراتيجية والحقائق الكبرى… والواقعُ، أن المشروعات والإنجازات الفنية والقرارات الصعبة والجريئة، لا يكاد يخلو منها أي نظام سياسي أو حكومة من الحكومات، مهما بلغا من التفاهة والتعاسة.

إن من الأمراض الأزلية للحكام، والتي قلَّ منهم مَن ينجو منها عبر تاريخ البشرية السياسي، ما يسميه حكماءُ الصين “سُكْر القِمَم” أو “نشوة القِمَم”، تشبيها لصاحبها بمن يتربَّع على قمة الجبل، فلا يحس إلا بالريح الباردة ولا يسمع إلا الصدى وأصوات الطيور الجميلة ولا يرى إلا الوديان الخلاَّبة، بعيدا عن هموم السَّفْح ومشاكله. ولعلَّ أقربَ شيء في تراثنا الصحراوي إلى هذه النّشوة، ذلك الشعورُ الذي يراه الراكب البدويُّ، وقد اعتدلت ناقته في الذميل، فيُنسيه النسيمُ وجودة الراحلة وانقيادُها كُلَّ هموم الدار.

لقد دام انتظار الموريتانيين وأملُهم في الانتصار يوما ما على الجوع والجهل وضعف المدارس وانعدام السكن وضعف القوة الشرائية وتذبذبها والجفاف والفوضى… دام انتظارهم أكثر من نصف قرن. ونحن، اليومَ أمام نظرة عامة وطرْح مركزي على هذه الشاكلة من الخطورة والمصيرية والمجازفة الوجودية والفكرية والعلمية.

لا أحدَ سيبلغ به القلق والتشاؤم حَدَّ رفض الدولة والاستقلال والوطن والمأوى والاستعاضة عن ذلك بالفوضى والإمارة والقبيلة… لن يَخْطُر هذا ببال أحد من الذين يضعون الدولة في قفص الاتهام ويحاصرونها بصروح من النقد والشك، إذْ لا بديل للدولة في عصرنا. إلا أن الخيارات المتاحة والمنعطفات الوجودية، ليست سائغة دائما ممتعة. والسفينة التي تركبُها أو تقودُها، قد تتعرض لعواصف زعازع، فيتعين عليك حينئذ التفكير بحياة الركاب قبل أن تفكر في نجاة سفينتكَ الغالية. ولا يعني انحيازك الطبيعيُّ للركاب وإيصالهم لبَرّ الأمان، أن تفرّط في قطعة واحدة من قطع السفينة الغرقاء، مادامت في مُلكك وليس بها ما يهدد حياتك وحياةَ ركابكَ المساكين.

الجميع تــــــــــائهون.

ونتيجة للحقائق أعلاه وبعض التشوُّهات الخِلقية، البادية على خريطة الدولة وتركيبتها ومؤسساتها وموقع عاصمتها ومراكزها الحية، وفشلِ الأحكام العسكرية المتعاقبة في بناء دولة المؤسسات، وعجز الاستعراضات الديمقراطية الرائدة عن خوض التحدي، وتقصير النخبة في تزويد الحكام والرأي العام بتصورات وبدائل مقنعة… أصبح الكل تائها في موريتانيا ومحبطا. وأولُ التائهين والمحبطين هُم النخب، التي لم تعُد تعرف من أين تبدأ أو تنتهي ومَن تعارض أو تؤيد. بل إن النُخب نفسَها لم تعُد محلَّ ثقة أحد، لا مِن الحُكام ولا مِن المحكومين. وذلك عامل آخر من عوامل الخنوع والعدمية وطمس البصيرة.

لذلك، سيكون كشْفُ الغُمّة عن هذه الأمة – كما يقولون – وتوضيح الصورة، هو المطلب الأول والمفتاح الذي بدونه لن يثمر أيُّ تغيير سياسي أو تحرّك شعبي ولن يُنتج أيُّ نظام وطني، مما يحتـِّم على الكلّ أن يُدلي دلوَه في الموضوع، وإن كانت الدَّلْوُ صغيرة ومتواضعة.

ثم إن النخب الموريتانية ليست فاسدة أو ضعيفة بالكلية، كما ينتشر ويُتوهم. بل إن الكثرة من أفرادها، ظلوا على مدى الفترات المتعاقبة بمنأى عن المسؤولية المباشرة والاحتكاك المتعمّد بأوكار الفشل والفساد. سواء مَن كان منهم في الداخل أو من هاجر بحثا عن لقمة العيش والتقدير، وحتى أولئك الذين وُظفوا في مهام للدولة تحت ظل أحكام سيئة السمعة ، فإن فيهم البريءَ والكفْءَ وربما الرجّاعَ الأواب!

والواقع أننا ننتقد كثيرا دون أن نقدّم حلولا أو نسعى إلى مخارج. لكنَّ المقام هنا أكبر وأجلُّ من أن يتقدم شخص أو جماعة ما بحل جاهز أو اقتراحات مُقـَوْلـَبَة في مقال أو دراسة أو محاضرة، وإنما هي الدعوة إلى بروز قوة جديدة واعية وصلبة، قادرة على التلاقي المباشر ونقاش الحال، بماضيه وحاضره ومستقبله، والتحرّك والتمدد… تلك القوة التي بدونها، لم ولن يستطيع حاكم ولا محكوم ولا وسيط تغييرَ حال ولا مآل. فعسانا نُخرج تلك القوة الجديدة قبل أن تنطلق كوميديا إقليمية قاصمة أو تراجيديا داخلية مشوِّشة عقيمة. وإذا لم يكن مجتمعُنا قادرا على توفير المادة الخام لنشاط ثوري وحضاري من هذا القبيل، فإن المشروع الموريتاني لن يتوقف عن التدحرج والإضرار بنا، مادام للقوى الكبرى مصلحة في بقائه، لكن تسييره وتنسيقه سيوكِلُه التاريخ والواقعُ والجيرانُ والقوى الإقليمية والدولية لغيرنا.

وصلى الله وسلم على محمد خاتم النبيئين والحمد لله رب العالمين.