
الراصد : لم يعد الفساد في موريتانيا سرًّا يُهمس به في الغرف المغلقة، بل صار سرًّا معلنًا، يتجول بين السطور الرسمية، ويطلّ من تقارير المؤسسات الرقابية، وفي مقدمتها تقرير محكمة الحسابات الأخير. ما كان يُخفى بالأمس أصبح اليوم مكشوفًا بالأرقام، صريحًا بالوقائع، فاضحًا لمنظومة كاملة ظلت تتحرك لسنوات خلف ستار الدولة، تحكم وتدير وتعيد إنتاج ذاتها بذكاءٍ بارد لا يخلو من الجرأة.
هذا التقرير لم يكن مجرّد وثيقة مالية، بل صرخة من داخل الدولة ضد الدولة، تنبّه إلى أن الخلل لم يعد في الأفراد وحدهم، بل في بنية منظومةٍ تُكافئ الولاء وتتجاهل الكفاءة، تُعيد توزيع المال العام بمنطق النفوذ لا بمنطق العدالة. هنا كل شيء يُرى ولا يُحاسب، يُعرف ولا يُصلح، يُكشف ولا يُتابع.
ومع أن النظام الحالي أبدى نية واضحة في مواجهة الفساد بكل أنواعه، فإن الطريق إلى الإصلاح محفوف بتراكمات الماضي. الأنظمة السابقة خلّفت إرثًا إداريًا مثقلًا بالعادات والتواطؤات، حيث أصبح استغلال المال العام شبه ثقافة، والسكوت عنه جزءًا من اللعبة السياسية. واليوم، يحاول النظام القائم كسر تلك الحلقة بإظهار الشفافية، عبر نشر تقارير الحسابات وتفعيل آليات الرقابة، وهي خطوة تُحسب له، لكنها لا تكفي ما لم تُترجم إلى إجراءات عملية ومساءلات صارمة.
إن ترسانة القوانين في موريتانيا غنية ومتطورة على الورق؛ فهناك قوانين لمحاربة الفساد، وأخرى لضمان الشفافية وتسيير المال العام، لكن ما ينقصها هو الروح التطبيقية، تلك الإرادة التي تجعل من النصوص واقعًا ومن المبادئ ممارسة. فلا جدوى من القانون إن بقي حبرًا على ورق، ولا من الإصلاح إن ظل شعارًا يُردد في الخطب والبيانات.
الخطير اليوم أن المنظومة الأقوى ما تزال تسيطر، تحتمي بشبكاتها، وتتخفى خلف العناوين البريئة للمؤسسات. إنها تعرف كيف تغيّر جلدها دون أن تفقد سلطتها، وكيف تعلن الإصلاح وهي تمارس التعطيل، وكيف تحوّل الفضيحة إلى روتين عادي.
لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه بصراحة:
ما الذي سنورثه لجيل المستقبل؟
هل سنترك لهم دولة مشلولة تتعايش مع فسادها كأنه قدر، أم سنمنحهم دولة مؤسسات قوية تحكمها العدالة لا الولاء؟
ما يجب أن نورثه ليس تقارير تملأ الأرشيف، بل ثقافة محاسبة وضميرًا وطنيًا حيًا يدرك أن الوطن لا يُبنى بالصمت ولا بالتبرير، بل بالفعل والمواجهة.
لقد حان وقت الحقيقة.
فالسر الذي كان يُخفى بات معلنًا، والاختبار الحقيقي الآن هو:
هل نملك الشجاعة لتحويل هذا الإعلان إلى بداية عهد جديد؟
أم سنترك المنظومة القديمة تكتب من جديد فصول روايتها القديمة بأسماء متغيرة جديدة قديمة متجددة؟