
الراصد : في كل مرة نفتح فيها ملفات الإنصاف، وفي كل موسم تُرفَع فيه لافتات التعاطف، يتكرّر المشهد ذاته: أصواتٌ تُدوّي من أجل فئة، وصمتٌ ثقيل يبتلع مأساة فئة أخرى. كأن الدماء درجات، وكأن الفجيعة تُقاس بلون البشرة، لا بعمق الجرح.
وهنا، تقف مأساة شهداء تورين شاهدًا صارخًا على هذا الخلل الأخلاقي المريع.
● من يلتفت إليهم؟
من يستعيد تضحياتهم، يزور عائلاتهم، يعيد أسماءهم إلى واجهة الذاكرة الوطنية؟
من يمسح على رؤوس أطفال فقدوا آباءهم فجأة، ويقول لهم: “شكراً… لقد فدى آباؤكم هذا الوطن بدمائهم”؟
لا أحد.
لا مسؤول يُذرف دمعة، ولا برلمان يستحضر آلام ذويهم، ولا منظمات تبادر إليهم. بينما يتسابق آخرون للبكاء على ضحايا آخرين… لاعتبارات لا علاقة لها بالإنسان، بل بالمزايدات والهويات والمصالح.
هؤلاء الشهداء، الذين ذُبحوا بوحشية على يد ظلاميين لا يؤمنون بحرمة بشر ولا حجر، كانوا أبناء موريتانيا جميعها: أبيضها وأسودها، عربيها وزنجيها. لم يسألهم الموت عن لونهم، ولم يمنحهم شهادة الوفاة حسب القبيلة أو المذهب.
ورغم ذلك، تعاملت الذاكرة الرسمية — ومعها جزء من الرأي العام — معهم كأنهم “ضحايا بلا هوية”، بلا بواكي، بلا سردية تحميهم من النسيان.
إن الشعور بالخجل الوطني اليوم ليس خيارًا، بل واجب.
فكيف نطالب بالعفو والإنصاف والعدالة والاعتراف التاريخي، ونحن نعجز عن أبسط أركان الأخلاق: الإنصاف في الذاكرة؟
كيف ندّعي بناء دولة مواطنة، ودولة قانون، بينما نُبقي ملف تورين في منطقة الظل، خارج الضوء، خارج العزاء الجماعي، خارج التعويض، خارج الحقيقة؟
إن دماء شهداء تورين ليست حدثًا عابرًا.
إنها امتحانٌ مكشوف لعدالة الدولة، لنزاهة المجتمع، لمصداقية خطاب الوحدة الوطنية.
وكل يوم يمر من دون اعتراف رسمي، ومن دون تكريم لعائلاتهم، ومن دون وقفة حداد وطنية، هو يوم يثبت أننا نُدير ظهرنا لجزء من ذاكرتنا، ونكتب تاريخًا منقوصًا… بضمير معطوب.
● رحم الله شهداء تورين.
ولعل استعادة حقهم في الذاكرة تكون الخطوة الأولى نحو دولةٍ لا تُفرّق بين دم ودم، ولا بين مأساة ومأساة؛ دولةٍ لا تحتاج إلى لون الضحية لتكريمها… بل إلى إنسانيتها فقط.
