وطنٌ لا يُختزل… الاستقلال في مواجهة أصوات التحامل العِرقي

جمعة, 28/11/2025 - 10:33

الراصد : يحزّ في النفس، ويُوجع الضمير الوطني، أن يعزف بعض من يعلنون انتماءهم لموريتانيا عن الاحتفال بعيد الاستقلال الوطني؛ هذا اليوم الذي يمثل لحظة جامعة للأمة بكل أعراقها ومكوناتها، ويوماً لم يُصنع بلون واحد ولا بيد فئة دون أخرى، بل كان ثمرة نضال مشترك قاومت فيه مختلف المكوّنات وتحمّلت الأعباء ذاتها حتى قامت الدولة على أكتاف الجميع. ورغم هذه الرمزية الجامعة، يصرّ البعض على تسييس المناسبة ومحاولة غسل الذاكرة من خلال تحميل شعب بأكمله مسؤولية أحداث مرتبطة بالحقبة الممتدة بين 1986 و1990، وما تبعها من قرارات وإعدامات صدرت في سياق سياسي خاص، وفي ظل سلطة عسكرية رحلت منذ أكثر من عقدين.

إن الخلط المتعمد بين يوم وطني خالد وملف سياسي يعود لتلك الحقبة – وهو الملف المعروف في الأدبيات العامة باسم ملف الإرث الإنساني – ليس سوى محاولة لتشويه الوعي الجمعي وإحياء اصطفافات لا تخدم الوطن ولا تصون نسيجه. والأكثر إيلامًا أن بعض الأصوات تتناول إعدامات عام 1987 وكأنها حالة استثنائية في تاريخ البلاد، رغم أنها لم تكن أول إعدامات تطال منفّذي المحاولات الانقلابية، وأن معظم تلك الحوادث – عبر مراحل مختلفة – طالت ضباطًا من مكوّن اجتماعي واحد دون أن تثير حينها ما يُثار اليوم من تعبئة انتقائية تعتمد قراءة مجتزأة للتاريخ.

إن تحميل مجموعة اجتماعية وزر أخطاء سلطة عسكرية سابقة يُعد ظلمًا بيّنًا وانحرافًا عن مقتضيات الإنصاف والعقل. فالشعب الموريتاني لم يكن طرفًا في تلك القرارات ولم يُستشر فيها، بل كان مثل الجميع ضحية لتقلّبات الحكم في مرحلة سياسية مضطربة.

وعلى خلاف ما يروّج البعض، فإن الأنظمة التي تعاقبت بعد تلك المرحلة بذلت، بدرجات متفاوتة، خطوات لمعالجة الجراح وطيّ صفحة الماضي. فقد بدأت تلك الخطوات بصلاة الغائب في كيهيدي، تعبيرًا عن الاعتراف والمسؤولية، وتواصلت عبر تعويضات مادية معتبرة، ثم مبادرات سياسية واجتماعية سعت – وإن لم تكتمل – إلى تضميد الجراح وإرساء مصالحة وطنية تحفظ السلم الأهلي.

لكن يبقى السؤال الأهم اليوم:

لماذا تغيب الرواية الأخرى لأحداث 1987؟ ولماذا تهيمن فقط رواية من يطلقون على أنفسهم “الضحايا”؟

فالرواية المتداولة على نطاق واسع اليوم تستند إلى شهادات من تعرضوا للاعتقال أو تضررت أسرهم، وهي رواية يجب احترامها، لأنها جزء أصيل من الذاكرة الوطنية. لكنها ليست الرواية الوحيدة. وهناك رواية أخرى موثقة – موجودة في وثائق رسمية ومحاضر استجواب واعترافات وشهادات ضباط ومدنيين عاصروا تلك اللحظة – تقدم صورة مختلفة تمامًا حول طبيعة الأحداث، ملابساتها، دوافعها، والظروف الجيوسياسية والعسكرية المحيطة بها.

ومع ذلك، تكاد هذه الرواية تختفي من الفضاء العام، لأنها غير ملائمة لخطاب المظلومية المتنامي، ولأن المناخ المشحون يجعل عرضها يُفهم – خطأً – على أنه إنكارٌ لآلام الآخرين أو دفاعٌ عن مرحلة انتهى الجميع من إدراك أخطائها.

والحقيقة أن عرض كل الروايات ليس تبريرًا لأي طرف ولا ادعاءً للحقيقة المطلقة، بقدر ما هو أمانة علمية ومسؤولية تاريخية. فالتاريخ ليس رواية أحادية ولا ذاكرة انتقائية، وإنما فسيفساء من الشهادات والوثائق والسياقات التي يجب أن تُعرض كلها حتى تُفهم الحقيقة بأبعادها الكاملة. وإخفاء أي رواية – مهما كانت صادمة أو غير متوافقة مع السرديات السائدة – هو تدليس، وليس كتابةً للتاريخ.

ولستُ هنا – في هذه اللحظة على الأقل – لأمنح أي طرف الحقيقة من عدمها، فالحقيقة تاريخيًا لا تُمنح، بل تُبحث. لكن الأمانة العلمية تقتضي أن يعرف الجيل الحالي، والأجيال القادمة، أن الأحداث أعقد بكثير من الصورة المتداولة اليوم، وأنها لا تُختزل في جانب واحد، ولا تُقرأ من زاوية واحدة.

وفي السنوات الأخيرة، تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات لتأجيج الخطاب العرقي، تُغذّيها حملات انتقائية يشارك فيها – للأسف – بعض الناشطين والكتّاب وحتى المنتخبين، تحت غطاء المطالبة بالحقوق. غير أن هذا الخطاب لا يخدم الحقوق بقدر ما يوسع الشرخ، ويعيد إنتاج حساسيات قديمة، ويدفع الأجيال الجديدة نحو مناطق احتقان خطيرة تهدد السلم الأهلي وتضرب الوحدة الوطنية في العمق.

إن موريتانيا لم تُبنَ بالتحامل ولا بالصوت العالي، بل بعمل مشترك وبتضحيات جميع المكونات التي قاومت الاستعمار وبذلت الدماء من أجل أن تبقى الراية مرفوعة. والاحتفال بعيد الاستقلال هو لحظة وفاء لهذا التاريخ المشترك، لا مناسبة لتمزيق الوطن أو استحضار خطاب الفرقة.

رحم الله كل ضحايا تلك الحقبة، وكل من قضى في مسارات الانقلابات أو الأحداث السياسية، ورحم الله كل من ضحّى دفاعًا عن قناعته أو وطنه. وستظل الوحدة الوطنية أعظم الدروس، وأبلغ الرسائل، وأقوى السدود في وجه تجار الكراهية والمظلومية.

فموريتانيا أكبر من أن يُختزل تاريخها في رواية واحدة، وأكبر من أن يُؤوَّل استقلالها بمنطق الاصطفافات. ستبقى كما وُلدت أول مرة: وطنًا يجمع الجميع، لا وطنًا يُختزل في إحدى زواياه.

عالي أحمد سالم الملقب البو