
بعيون ثاقبة يتفحص امبارك ولد اهويبل وجوه الوافدين على قريته طير طوكال 19 كم من مال، إن لديه فراسة لا تخطئ للكشف عن هوية المسافرين والغرباء، فراسة اكتسبها على مر الأيام وبطول التجربة، فمن هؤلاء من ينشد ضوال الأنعام، ومن يطلب النجعة ونقاط الماء، ومنهم ممثلو الإدارة وبرامج الدعم الحكومية وغير الحكومية...
ينصت ولداهويبل لمحاوره بأدب جم وهو يجمع عليه أطراف فضفاضته، وما إن يطمئن إلى محاوره حتى ينطلق في حديث ماتع وإن كان ذا شجون، فهو من العارفين بشؤون القرية، ويمكنه الحديث عنها، خاصة بعد ما تنتهي " حركة الصباح" فهو صاحب مخبزة متواضعة لكنها توفر لساكنة القرية الخبز الساخن صباحا ومتى يرغبون.
لايغريه العائد المادي ولاتوحشه قلته فهو بشوش في وجه الأضياف يلقاهم ببشاشة وفراش.
يستجمع شتات أفكاره عند الحديث عن هموم الساكنة والتي يراها متعددة: فالأسعار غالية، والخدمات الأساسية معطلة وشبه مفقوده، وفرص العمل شحيحة مما يضطر الشباب للهجرة، ويرغم المزارعين على ترك أراضيهم، واحتراف أعمال يدوية بسيطة لكسب قوتهم وقوت عيالهم..ولقريتة كغيرها من قرى وتجمعات مثلث الأمل تاريخ حافل مع شح المياه الصالحة للشرب، وضعف الاستفادة من مياه السدود التي تتعدد بتعدد البلدات والتجمعات السكانية فلكل بلدة سدها، ومجالها الرعوي الخاص يضيف، أعمرولد صاغو من تجمع مال وهو يبدي شعورا با الارتياح لمستوى تهاطل الأمطار هذا المستوى ومن مستوى ارتفاع منسوب مياه السد الذي يعد من أقدم السدود في المنطقة.
مزارعون ورعاة
الزرعة التقليدية تكاد تكون النشاط الأبرز في شبه المنطقة، فالسكان مزارعون بالفطرة، ويؤمن السد الذي يحمل اسم طيرطوكل مثل غيره من سدود التجمعات نمطا بدائيا من الزراعة المطرية التي تفي بجزء ضئيل من احتياجات الساكنة للغذاء وخلال أشهر معدودة، ومن غلات الحبوب: الذرة والزرع والفاصوليا والدخن..إلى جانب ما تنتجه التعاونيات الزراعية من خضروات إبان موسم الزراعة الشتوية...
في المدن القريبة كمال وشكار تعرف أسعار الحبوب بعض التراجع بعد موسم الحصاد، ثم سرعان ما تعرف طريقها إلى الصعود لتماثل نظيراتها في المدن الكبرى كالعاصمة نواكشوط، وهو ما يعزوه البعض إلى ظهور شبكة الجوال التي أذكت المضاربة في أسعار الحيوان والمنتوجات الزراعية..
في بعض القرى ما زال الناس يبادلون الغلات الزراعية بالمكيال والمد، وفي أحيان كثيرة لا يكون للنقود أي دور في تلبية احتياجات الساكنة من الحبوب..كما يشرح المزارع سيد أحمد لموفد الفكر.
على بعد أمتار ترتفع سواتر الحاجز الرملي لسد القرية، ومن على أعمدة خرسانية ينتصب خزان للمياه يتوسط حوزات زراعية تسورها أسلاك شائكة إنها أطلال ما تبقى من تعاونية النساء الزراعية والتي يتوقف استغلالها مع حلول الخريف، وليركز المزارعون كل جهدهم لاستصلاح ضفاف السد، والمساحات التي تنحسر عنها مياه الأمطار، في سباق لكسب الوقت قبل انقضاء موسم الخريف.
ومع ذلك فالفجوة الغذائية تتفاقم عاما بعد آخر، وحاجة الساكنة إلى العون الغذائي تزداد خاصة إبان أشهر الصيف كما يقول مسؤولو القرى.
التعاونيات النسوية ورغم الدعم الممنوح لها هذا العام من طرف برنامج PROGRE إلا أنها لا تؤمن سوى جزء يسير من احتياجات الساكنة من الخضروات كالبصل والجزر والطماطم والتي يصل سعر الكلغ منها إلى أقل من 100أوقية قديمة في موسم الحصاد.
أمية أبجدية
تعاني قرى المثلث من ضعف في التعليم وشح في التحصيل حتى إن بعض المدارس تقضي فترات مغلقة دون أن يمر بها معلم كما يشرح ذلك اعل ولد اميجن، مما فاقم أزمة النجاح وتردي الحالة التعليمية كما هو حال أبناء المبروك 30 كم إلى الجنوب الشرقي من قرية مال.
وثمت جهود معتبرة من طرف السكان كما قال لنا عمدة بورات سابقا عن جهوده في توطين التهجي ثم التعليم في بلديته، وقبل سنوات من الآن مررنا بقرية صدى المصرف وكان وضع التلاميذ صعبا للغاية، رغم وجود مدرسة ورغم توفر الكفالة المدرسية للتلاميذ فإنه من النادر وجود من يحسن التهجي من بين أبناء القرية.
ويشرح أحد المعلمين سبب ذلك أن المعلم يأتي ولديه برنامج يطبقه وليس لديه الوقت لتعليم التهجي وتدريس المقررات المتشعبة والكثيرة التي تستدرك مايحتاحه الأبناء من معارف.
خير شراكة..
يقول امبارك "إلى وقت قريب كان السواد الأعظم من الأبناء يفتقر لتطوير الذات في مجال التهجي " في رده على سؤال حول واقع التعليم وهو يشير إلى لافتة مكتوبة بخط واضح على واجهة عريش من الصفيح وأعمدة الحديد:" محظرة طيرطوكال القرآنية" ويضيف أنه بالتعاون بين الأهالي و جمعية "البركة" وعلى مديات قليلة أصبح في القرية طلاب مجدون في تحصيل القرآن، منهم من تجاوز في التحصيل 20 جزءا وقد فاز بعضهم في مسابقة أم عبد العزيز المنظمة في رمضان الماضي، حيث حصدوا جوائز معتبرة في مستويات التهجي وفي مستوى 5 أحزاب وفي مستوى 15 حزبا وفي مستوى 20 حزبا وفي نصف القرآن، وفوق ذلك حصد الكبار جوائز في حفظ الفاتحة و قصار السور.
كان عشرات الأطفال من مختلف الأعمار قد أخذوا مواقعهم على مقربة من الجدار الغربي لمسجد القرية بعدما حاصرتهم أشعة شمس الضحى الحارقة وحناجرهم تصدح بما في ألواحهم من آي الذكر الحكيم، فيما يتهجى الصغار وهم يخترقون جدار الصعوبة ويعلون نجاد الإنجاز فالتهجي طريق سالك للدراسة والنجاح، وهو من التحديات التي تواجه آدوابة، بشكل كبير..مشهد مهيب ومؤثر ذلك التحول الذي أحدثه تعليم القرآن الكريم في حياة الساكنة يعلق أحد وكلاء الأطفال.
وقصص النجاح في طيرطوكل تصاحبها مستويات من عدم تحقيق المطلوب في بعض القرى.
حفل لا كالحفلات..
عيسى ولد محمد سالم شاب نشأ في طاعة الله وحفظ كتابه العزيز في محظرة تابعة لجمعية البركة في قرية بلتيه وقد حصل على السند العالي بقراءة نافع، واليوم حضرنا لحفل أقيم بالمناسبة حضره أعيان القرية ووالديه، وشيخ المحظرة، وخلال الحفل تسلم عيسى مبلغا متواضعا ( 15.000) أوقية جديدة، تكريما له ولوالديه على هذا التاج الذي رفع به جبين الجميع في هذه المناطق الصعبة، ولا شك أن القرية استفادت كثيرا واصبح تحصيل طلبتها للقرآن مرضيا.
أولويات ومطالب
يجمع من ألتقينا على حاجة السكان إلى الماء الصالح للشرب بدل الاعتماد على مياه الآبار السطحية، أو الارتوازية التي لا تخلو من ملوحة.. كما يلحون على مطلب افتتاح حوانيت لدعم الأسعار في القري، وزيادة حصتهم من تدخلات "المؤسسات الاجتماعية" وكذا المساعدة في ترميم السدود والاستفادة من مياها في الزراعة وعلى مدى أشهر العام.
وبسبب معاناة الساكنة من نقل المرضى والنساء الحوامل إلى اقرب مرفق صحي في مال يطالب السكان بتوفير نقاط صحية في قراهم مزودة بسيارة إسعاف و"قابلات"، فرغم وقوع هذه القرى في دائرة قطرها لايتعدى 30 كم، وبعضها على الطريق المعبد إلا أن أجرة السيارة إلى مال مرتفعة، وهو ما يشكل عبئا على المرضى وذويهم، ويفاقم من معاناتهم من الغلاء والتردي المعيشي.
فقبل فترة اضطرت إحدى السيدات للذهاب إلى المركز الصحي بمال وتطلب الأمر البحث عن القابلة أو من ينوبها فكانت وسيلة البحث المستخدمة عربة تجرها الحمير، وفعلا وجدوا القابلة في تلك الليلة بمنزلها القريب من المركز وأجزت المرأة الحامل مع تباشير الفجر الأولى ولله الحمد والمنة.
