أي مستقبل للبيضان...؟ د/أحمد ولد هارون ولد الشيخ سيديا

اثنين, 19/02/2024 - 08:30

الراصد : في هذا المقال الذي نشر سنة 2010 بعنوان “أي مستقبل للبيظان”  يدق فيها المستشار أحمد ولد هارون ولد الشيخ سيديا ناقوس خطر الهجرة غير الشرعية إلى موريتانيا،  فيما يلي نص المقال:

قد يبدو في العنوان شيءٌ من القسوة و التشاؤم؛ و قد يرى فيه البعض إثارة وحساسية. لكن السؤال عن وضع البيضان و مستقبلهم، أصبح مبحثا بالغ الجدية و الوجاهة و لَمْ يَعُد يفاجِئُ أحدا. لا لصعوبة المرحلة التاريخية التي تعيشها هذه المجموعة الشعبية و ما يواجهها من تحديات سياسية و ديمغرافية و إستراتيجية و حضارية فحسب، و إنما لكثرة انتشار هذا السؤال و أمثاله بين الناس.

فمصير البيضان و دولتِهم و حضارتِهم و مركزِهم السياسي و الديمغرافي… و إلى أين يسيرون؟ و هل ينقرضون؟ و ما مدى استفادتهم من الدولة و الأرض؟ و ما هي حصونهم و ضماناتهم؟ و من يتكلم باسمهم و من يدافع عنهم؟…

إشكالاتٌ باتت تـُطرح يوميا من قِبل أفراد هذه المجموعة، شبابا و شِيبا، رجالا و نساء، مثقفين و بسطاء، تصدُر من قلوبهم و عن قرائحهم، بنفس النبرة البسيطة و العميقة في آن واحد.

فهل يواجه البيضانَ مِن التحديات و المخاطر ما لا يواجه غيرهم؟ و هل يتناقض طرح مثل هذا الموضوع مع الطرح الوطني و مفهوم المواطنة الذي تقوم عليه الدولة الحديثة؟

هل من المفيد أو مِنَ الممكن تغطية هذه الهواجس و الحقائق التي تلُوح اليومَ بقوة في سماء موريتانيا، أَمْ أنَّ مِنَ الأنْسَب طرح الموضوع و إنزاله إلى الأرض و معالجته بشكل واعٍ ومسؤول قبْلَ أنْ يَعْبَثَ به العابثون و المرتزقة و الأجانبُ و اللامسؤولون؟

قبل الشروع في تحديد مفاهيم هذا الكلام وnمنطلقاته، سيكون مِن المناسب التقديمُ بين يَدَيْه بجملة من المداخيل العامة:

المدخل الأول:

سيكون من المستغرَب أن يرى أحدهم في الموضوع أيَّ نوع من ضيق النظرة و إثارة النعرات. ذلك أن لكل طائفة بشرية من الهموم و التحديات ما قد يواجهها لوحدها، كما قد يكون لها من ذلك أيضا ما يشملها و المجموعاتِ الوطنية الأخرى، دون أن يكون في ذلك تعارض مع مبادئ الأخوة و التاريخ و المصير المشترك.

المدخل الثاني:

أن هذه المعالجة منطلقة، في أساسها، من هواجس الناس و سؤالاتهم. فلا يحق لأي جهة، سواءً كانت أكثرية أو أقلية و سواءً كانت في الحكم أو في المعارضة أو كانت إيديولوجية أو عرقية، أن تصنع للناس قضيتهم و تمليها عليهم. بل إن دور النُخَب و الساسة هو صياغة القضايا بناء على حاجات الناس و هواجسهم و السؤال على ألسنتهم.

المدخل الثالث:

أنه بتجاهُلنا لاستشكالات الناس و الحقائق الواقعة أمام أعيننا، نكون قد خدعنا أنفسنا و خذلنا شعبنا و وطننا بكل مكوناته.

فواجب كل مواطن، كما يقول ريموند آرون، هو التمسك بالحقيقة حتى في مواقفه حيالَ الوطن؛ و إنَّ واجب كل مُواطنٍ الموتُ من أجل وطنه.. لكنْ ليس هناك أيُّ شخص مُرْغَمٌ على الكذب من أجل هذا الوطن!

المدخل الرابع:

أن هذه المعالجة تنطلق من بعض الصفات الخاصة بالبيضان و المرتبطة بهم أكثر من غيرهم من المجتمعات الشقيقة و المجاورة. من هذه الصفات:
1. بدواة البيضان و غياب مفهوم الدولة المركزية في عقلياتهم و عبر تاريخهم السياسي.
2. قلة عددهم و ضعف نموهم الديمغرافي و افتقارُهم إلى أي مَدٍٍ شعْبي على الكرة الأرضية من خارج حدود ما يسمى “اتراب البيضان”، إضافة إلى تَشَتُّـتِهِم عَبْرَ صحراء شاسعة و في دول مختلفة.
3. بدائية و ارتجالية الأشكال و الأدوات التي تبنى بها الظاهرة السياسية في بلاد البيضان و ضعف مادتهم السياسية و افتقارها إلى القضية و تقادُم أساليبها و ارتباك قياداتها و خروجه عن الموضوع و إهمالهم للأسئلة الكبرى و الهواجس الشعبية الحقيقية.
4. ترَسُّخُ بعض العادات السلبية في المجتمع، مثل عدم الاعتماد على النفس في كثير من الخدمات الضرورية للحياة، مثل خدمات المنزل التي أصبح أغنى الأغنياء في الخليج أوربا يقومون بها بأنفسهم دون الاستعانة بأجير.
5. استفحال كابوس الهجرة بشكل مرعب و غير مسبوق إلى أرض البيضان و عبرها.
6. أن مجتمع البيضان، كغيره من المجتمعات الصحراوية، مجتمع جامد يتعذَّر عليه التفاعل صِحِّيًا مع المجتمعات الأخرى، إلا إذا كانت هناك غَلـَبَة مُسَلَّمٌ بها و تحصين ميداني أو ثقافي فعّال…

على العكس تماما من المجتمعات المائعة التي يسهل عليها التعامل و التفاعل مع مختلف المجتمعات و الأوضاع.
7. أن المد الشعوبي و الجَسَرة على الثقافة الأصيلة، بما في ذلك اللغة العربية و الثقافة الإسلامية، لا تأتي من الجنوب و الشمال و الشرق و الغرب فحسب، بل إن الشعوبية الثقافية القادمة من داخل أوساط الأجيال الأولى من البيضان المتعلمين أخطر و أعمق.
المدخل الخامس:

أنه قد أصبح لهذا الأمر من الراهنية و الإلحاح، ما يجعل النخبَ الصادقة و الساسة الملتزمين يبتعدون عن المجاملة حِيالـَه أو أن يَعْبَأوا بالحساسية المصطنعة و العُقد التي تحوم حوله. فهل من المنصف أو المفيد أن تبقى كلمة “البيضان” مختصَرَة في أمور تراثية بسيطة، كأدوات الصناعة التقليدية و الموسيقى و الشعر الشعبيين؛ و أن يكون من المحظور و المثير معالجة أوضاع هذه المجموعة و همومها السياسية في مَحْفِل رسمي أو عمومي أو في كتابة جدية؟
المدخل السادس:

أن الخطابات و الترشحات و  الأحزاب الموريتانية التي تحمل قضايا طائفية و أحيانا عنصرية صريحة و الدعوة إلى إحصاءات عرقية و تمردات عنيفة… أصبحت في حكم المعتاد و مشرَّعة و مقبولة وطنيا و دوليا، شريطة أن لا تكون لها مرجعية “بيضانية” محض، لتبقى هذه الأخيرة ملفوفة بلبوس الحواجز النفسية والعقد السياسية.

مفاهيم وحقائق:
خلافا لِكلِّما يمكن أن يُحاك من خَيالات سياسية وتاريخية، و بغض النظر عما خلـَّفته بعضُ الممارسات الاجتماعية البغيضة، المتعلقة بالاسترقاق الذي عرفه هذا الشعب كغيره من شعوب الدنيا، فإن كلمة “البيضان” تُطلق على ذلك المجتمع الذي يتكلم اللهجة العربية الحسانية؛ و المنتشِر فيما يعرف تاريخيا بـ “اتراب البيضان”، التي تشمل اليوم أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية و نواحي أخرى تخضع لسيادة دول مجاورة. و قد تأسست لهذا المجتمع مكوّناتُ شخصيته عَبْرَ أحداث تاريخية كبرى، يمكن حصر أبرزها في ثلاث:
أولا: وصول طلائع الفتح العربي الإسلامي إلى الطرف الشمالي من البلاد سنة 734م.
ثانيا: قيامُ حركة المرابطين حوالي سنة 1029م. و قد رافق نشأتَهم اعتناقُ مجاوريهم من أهالي سِلَّى و تكرور للإسلام، فكانوا عونا لهم على مجابهة الأزمات التي واجهت دعوتهم في بدايتها.
ثالثا: انتشار قبائل حسان في البلاد على عدة مراحل قبل نهاية القرن 15م. ليستكمل القطر عناصر سكانه و تحل لهجتهم العربية الحسانية محل اللهجات الصنهاجية (كلام ازناكة) في طول “تراب البيضان” و عرضها.
ظل البيضان، على مدى القرون الماضية، هم أصحابَ الكلمة الأولى و الأخيرة في هذه الأرض (اتراب البيضان)، الممتدة من اكليميم شمالا إلى مدينة اللوكه جنوبا. و من المحيط غربا إلى صحراء النيجر شرقا. ذلك أن السلاح و الهيمنة الميدانية كلها لهم و الاقتصاد بأيديهم و العلوم و الروحانيات هم أصحابها و أئمتها والثقافة و الإبداع من خيالهم و على أذواقهم و الدولة الحديثة خيارُهم. فأنى للقرار أن يتجاوزهم؟
إلى يوم أمس، لم يكن في الأمر جدال أو اعتراض و كان التعايش مستقرا طِيلةَ مراحل التسيير الذاتي. إما بسبب الغلَبَة المسلَّم بها و إما بسبب عدم وجود تدخل أجنبي و إما لعدم وجود تضارب في المصالح. بل إن قبول المرء ضمن هذه المنظومة البيضانية الصلبة، كان من أهم الطموحات الاجتماعية و الدينية في المنطقة كلها.
غير أن الدولة الحديثة و الصّنْعة الديمقراطية الأخيرة، ساهما بشكل ملاحظ في تناقص الاستقرار و الثقة المتبادلة تاريخيا بين الإخوة المتعايشين في هذه البقعة من الأرض. يضاف إلى ذلك – بطبيعة الحال – زيادة الوعي والتمدرس بين أفراد الطبقات المظلومة وما نجم عن ذلك من رفض للظلم و المطالبة بالحقوق على و تيرات مختلفة و بلهجات متباينة.
في أيام المختار ولد داداه، نُظمت مظاهرات و إضرابات عنيفة و وزعت منشورات شديدة اللهجة ردا على إضافة ساعتين من العربية إلى التعليم الوطني أو إدماج خرجي الجامعات العربية في الإدارة، فكان رد السلطة أعنف، مما أحدث قتلى و جرحى و جَوًّا من عدم الثقة، مازال على حاله.

و خلال فترة ولد الطايع، حاول ضباط زنوج أن يستحوذوا على السلطة بالقوة، و لن يكون قلبُ الأمور رأسا على عقب حينَها بالعسير. و كانت ردة فعل ولد الطايع أعنف و مازال الجميع يعيش مخلفاتها.
أما اليوم، فقد بات من المعتاد سماع تلك الأصوات والدعوات الصادرة على أفواه وأقلام مجموعة من النشطاء السياسيين المنحدرين من فئة الحراطين (المُتزنِّجين منهم على وجه الخصوص)، والتي تتبرأ من البيضان والانتماء إليهم، وتصفهم بأنهم شرذمة قليلون من الغزاة وقناصة العبيد. مع شيء من التهديد وتقسيم البيضان إلى عرب وبربر وحراطين…
معظم الناس يدرك أن اللبن يغلي فوق النار، لكن الكثير منهم يهابون الموضوع ويرَهبونه ويكِلونه إلى الدولة أو إلى المجهول، ناسين أن المثقف أو الإنسان العادي يمكنه أن يقول من الآراء ويطرق من المواضيع ما لا يمكن للدولة والسلطات السياسية والأمنية أن تتلفّظ به لحظة واحدة.
و سواء شئنا أمْ كرِهنا، فقد عرفت المسألة منعطفا دقيقا و ظواهر جديدة – بالمعنَيَيْن الكَمِّي و الكَيْفي – مما يحتم علينا شيئا من مصارحة النفس و مصارحة الغير. وذلك بطرح جملة من الحقائق المتجاوزة في واقعنا المعيش قديما و حديثا، علَّنا نصل إلى عقد اجتماعي أقوى و نتصرّف بالشكل المناسب، قبل المباغتة و فوات الأوان:
الحقيقة الأولى: أن كلمة “البيضان”، و إن كانت تطلق، كما سلف، على ذلك المجتمع الذي يتكلم اللهجة العربية الحسانية، و المنتشِر فيما يعرف تاريخيا بـ “اتراب البيضان”، إلا أنها تقتصر أيضا، حسب مفاهيم أخرى سائدة، على “البيضان البيض”، أو البيضان المنحدرين من أصول عربية و بربرية. و هو اصطلاح كثير الورود و قطعي الدلالة داخل الفئتين و المجتمع الموريتاني بأكمله.
الحقيقة الثانية: أن البيضان المنحدرين من أصول عربية و بربرية، ظلوا، على مدى القرون الماضية، هم السادة، مستأثرين بالسلاح و الاقتصاد و العلم و الروحانيات و الثقافة و القرار السياسي… مهمِّشين و مضطهدين للطائفة الأخرى: البيضان السمر أو السودان أو الحراطين أو الأرقاء و الأرقاء السابقين (العبرة بالمُسَمَّيات و المَضامين و ليست بالأسماء والعناوين)، الذين ظلوا على مدى القرون الماضية يُستعبَدون و يتعرضون تحت طائلة الرق لأبغض الممارسات و أبشع صنوف الظلم والحرمان…
الحقيقة الثالثة: أن هناك احتمالين للتصنيف. أحدهما يعتمد المقاربة الثقافية، و يؤدي إلى أن كل من يتكلم اللهجة الحسانية و يسكن بلاد البيضان و ينتمي إلى قبائلهم و يمارس عاداتهم… هو من جملة البيضان، سواء كان من أصول عربية أو بربرية أو زنجية. أما التصنيف الثاني، فيعتمد المقاربة العرقية المتمحِّضة، و يعتبر أن كل إنسان أسود على وجه الكرة الأرضية، هو من أصول زنجية إفريقية. و بذلك يكون الحراطين زنوجا معربين.
الحقيقة الرابعة:

أن موريتانيا تشهد – في واقع الأمر – انحسارا مشهودا للممارسات المتصلة بالرق و ذلك على مختلف المستويات، لكنه مازالت هناك مخلفات للرق وستبقى ردحا من الزمن. غير أن ما لا يدركه الكثير من الناس، هو أن “مكافحة الرق” نفسها، لها مخلفات أدق و أخطر و يمكن للكثير من الأفكار و المشروعات السياسية و الثقافية و المالية أن يتسرب إليها من داخل البلاد و من خارجها.
الحقيقة الخامسة:

أنه، إلى حد سنة 1984، لم يتبوأ أي من أبناء مجموعة الحراطين منصب وزير في الحكومات الموريتانية المتعاقبة، أما اليوم فإن المنصب الوحيد الذي لم يتبؤوه، هو منصب رئاسة الجمهورية.
الحقيقة السادسة: مما يدركه الجميع، أن ميزان النمو الديمغرافي مختل بشكل ملاحظ لصالح الفئة السمراء. و ما ذاك بسبب كثرة هذه الفئة، التي تعتبر من أقل المجموعات البشرية في العالم، بل إن الاختلال راجع أولا و أخيرا إلى عقليات و سلوكيات اجتماعية و اقتصادية تسلكها فئة البيضان البيض، ستؤدي حتما إلى انقراضها بشكل شبه تام من على ظهر الأرض. و جدير بالذكر أن هذه العادات أقل تجذرا في بيضان البوليزاريو و أزواد و الساقية الحمراء و وادي الذهب منها في بيضان موريتانيا.
الحقيقة السابعة:

أن ما يَتَّكِلُ عليه البيضان البيض و يغترون به، هو استئثارهم – حتى الآن – بمنصب رئاسة الجمهورية و بعض المناصب العسكرية و الأمنية العليا و شيء من التفوُّق التجاري و المالي المؤقت. يقول أب الاستراتيجيات الصيني سُونْ اتْزُو: “إذا أُعطي للخصم حبلٌ طويل بما فيه الكفاية، كثيرا ما يحدث أن يشنق به نفسَه”! و الجيش، كما يقول الجنرال ديغول، لا يعني الجنرالات و العقداء و كبار الضباط، بل إن الجنود الصغار هم مادة الجيش.
الحقيقة الثامنة:

أن النتيجة – و الحال هذه – معلومة و محسومة. و مَفادها أن أجيالا من الإخوة الحراطين، الذين حظوا بالتعليم و الوعي، ستمسك في السنوات القادمة زمام الأمور في موريتانيا، و تستأثر به إلى الوقت الذي يتكامل فيه اكتساحُ البلد من قِبَل أفول المهاجرين القادمين من غرب إفريقيا، ذات 296186492 نسمة، حسب إحصاءات سنة 2009.
الحقيقة التاسعة:

أن النتيجة أعلاه لا توحي بأي مشكل، فهذا عصر الديمقراطية وحكم الأكثرية. وهؤلاء إخوة، لهم نفس الانتماءات الدينية والثقافية و الجغرافية… لكن السؤال يبقى واردا هنا و مشروعا عن الوضعية السياسية و الاجتماعية والنفسية التي ستحصل عندما ينقلب التاريخ رأسا على عقب و يصبح تابع الأمس متبوعا و متبوعُه تابعا؟

فهل ستتقبل المجموعة الشعبية المهزومة الأمر و تتغلب على عقدة التفوق؟ و هل ستتخطى الفئة المنتصرة عقدة الدونية و روح الشنآن و الرغبة في الانتقام من ألف سنة من التاريخ؟ و هل سينجو الجميع من الإغراءات و الإرْجافات المدمرة التي تأتي من داخل البلاد و خارجها؟

الحقيقة العاشرة:

أنه إذا كان التركيز في الحلقة الأولى من هذا الموضوع على أوضاع البيضان الموريتانيين، فهذا لا ينفي أن مجموعات البيضان الموجودة في دول أخرى مجاورة، هُمْ أشقاء لبيضان موريتانيا، شئنا ذلك أمْ أبينا، إذ لا فرق بين الفئتين في الأصل و التاريخ و اللسان و العادات و المصير المشترك… فإلى متى يبقى التواصل شبه معدوم.
لهذه الأسباب و غيرها، يتساءل الموريتاني العادي: هل من الجائز اليومَ و المفيد في الظروف الحالية، التدقيقُ في هوية البلد و مراجعتها و التوقفُ عند بعض الحقائق التاريخية و السياسية و الاجتماعية؟

و هل تُعتبر المقاربة العرقية و معالجة أوضاع و مصائر مجموعة شعبية ما، لا تجوز – في دولة القانون و الديمقراطية – إلا للأقليات صاحبة الحقوق المهضومة أو تلك التي لم تصل يوما إلى سدة الحكم؟
هل بإمكاننا أن نثَبِّت أسسا متينة للمواطنة و التعايش الأهلي، قبل تحقيق المشروع التقليدي المتمثل في بناء دولة موريتانية قوية و حديثة؟ و إلى أين وصل حلم الطفولة هذا؟ و ماذا يواجهه من تحديات؟ و هل هو قابل للتحقُّق؟
هل من سبيل إلى إعادة بناء الثقة بين مكونات الشعب دون إيجاد مرجعية محسومة، متفق عليها و مسلَّم بها من قِبل الجميع؟ وأي ثوابت يمكن للموريتانيين أن يتفقوا عليها، بعد أن أصبحت اللغة العربية وتعريب الإدارة يثيران الحفيظة في موريتانيا، تماما كما يثير الهولوكست و نكرانه حفيظة آخرين؟
هل مازالت الشرعية التاريخية واردة في عهد الديمقراطية و حكم الأكثرية؟ و هل سيجد الموريتانيون في الديمقراطية الطائفية و تقسيم المناصب السامية بين الطوائف عامل استقرار وحلا مقبولا من طرف مكونات الشعب؟

مرحلة الحسم:
من قواعد اكلوزفيتش الإستراتيجية، أن الحدَّ من سلبيات معركة خاسرة تجري، أوْلى من خوض معركة جديدة.
و كل مشروع، حتى و لو كان ناجحا و متكاملا، يحتاج في جميع مراحله إلى المراجعة والتمحيص. و بعد خمسين سنة من حصولها على كيان مستقل، عرف كثيرا من التعثرات و الانتكاسات؛ و قليلا ما تتحقق فيه التطلعاتُ و الأمجاد، تكون موريتانيا قد بلغت مرحلة الحسم:
• حسم البقاء أو قابلية البقاء،
• حسم هوية الدولة ومرجعيتها،
• حسم الانتماء الاختياري لهذه الهوية والمرجعية،
• ثم البحث عن وسائل جديدة لامتلاك المجتمع للدولة و الأرض، و وسائل أخرى لتحديد مدى انتماء المجتمع لهذه الدولة و تلك الأرض.

لقد كان الناس يَسألون – في كل محطة من محطات المشروع الموريتاني المتعثِّر – عن وضع الأقليات و حضورهم و مواقفهم. و كانت الأقليات الموريتانية، شأنها في ذلك شأن الأقليات في العالم، أكثر تنظيما وقدرة على طرح همومها و تقييم أداء نُخبها و نضالها… لكن قلق عامة البيضان اليوم و خاصتهم على مستقبلهم السياسي، أمر جديد نسبيا و يحمل معاني عميقة و عناصر متعددة الأبعاد و جاء في ظروف متميزة و ظواهر إقليمية و دولية عاتية، لم يكن الكيان الموريتاني بأكمله مهيئا في الأصل لمواجهتها.

كابوس الهجرة:
و لها علاقة وثيقة ومباشرة بالجريمة و اختلال التوازن الديمغرافي والبطالة و انحدار الأخلاق و الضغط على القطاعات الخدمية كالماء و الكهرباء و الصحة و السكن و الوقود و النقل…
لا وجود في موريتانيا للأرقام والإحصاءات الدقيقة و لا توجد بها أي دراسة علمية و لا تقرير إستراتيجي في أي مجال، و كأننا الشعب الوحيد من شعوب الدنيا الواثق من قدرته على بناء دولة حديثة بالاعتماد على شيء من ارتجالات البدو و خَطرات الجهَّال.
لكن منظمة الهجرة الدولية قالت في تقرير لها أصدرته يوم 31 يناير 2010، إن موريتانيا أضحت المقصد الأول للمهاجرين الأفارقة من دول جنوب الصحراء. وأن 84 في المائة من بين 100 ألف مهاجر يوجدون في الوقت الراهن في موريتانيا، ينتمون لجنسيات افريقية. وأشار التقرير إلى أن 87 في المائة من هؤلاء المهاجرين يعملون بالعاصمة نواكشوط في القطاع الاقتصادي غير الرسمي في مهن خادمات منازل و سائقين و مزارعين و صيادي أسماك. و قال التقرير إنه بالرغم من أن موريتانيا أًصبحت وجهة رئيسية للمهاجرين من دول غرب إفريقيا، إلا أن موريتانيا نفسها تعاني من هجرة أطرها المتعلمة إلى الخارج، خاصة صوب أوربا بحثا عن فرص معيشية أفضل. و الكل يعلم أن الأرقام أضخم من هذا وأنها مجرد البداية.
إن القارة الأوربية، التي يزيد عدد سكانها على 700 مليون نسمة، و هي أكثر مناطق الدنيا غنى و تحَضُّرا وتنظيما و احتياجا إلى اليد العاملة، و تحُول بينها و بين إفريقيا محيطات و بحارٌ ودولٌ و آلافُ الكيلمترات، تؤرق الهجرة مضاجعها و تشكل هاجسها و كابوسها الأول. أما الولايات المتحدة الأمريكية التي تواجه الهجرة من المكسيك عبر نهر ريو اكراندي، لم تجد بُدا من بناء جدار عازل بلغ طوله 1200 كيلومتر.
و موريتانيا، إما أن تبقى على حالها فقيرة بائسة، عندئذ سيُعتبرُ كل مهاجر وفَدَ إليها بمثابة مَن ينتزع اللقمة من أحد مواطنيها الجياع أو يضايقهم في فرص العمل و الخدمات الشحيحة. و إما أن يجد البلد طريقا لاستخراج جزء من معادنه الكثيرة أو سبيلا لزراعة جزء من أراضيه الخصبة أو تنمية و استخراج ثروته الحيوانية و السمكية الهائلة… فهذا إن حصل في الظروف و التمَوْقع الحالي، سيصبح الموريتانيون، بين عشية و ضحاها، أجانب في بلادهم وسيُبتلعون ابتلاعا و هم لاهون في حلقات مفرغة من الأساطير السياسية و الشكليات الروتينية.
و للهجرة عدة أبعاد ومخلَّفات معقدة و خطيرة وأحيانا يكون حلها مستحيلا. فعلى المستوى الأمني، لم يعرف الشعب الموريتاني العادي، بمختلف طوائفه، الجريمة المنظمة و المبادرة إلى القتل من أجل هواتف أو قطع السيارات. و في حال انحراف فرد من أفراد الأسرة أو القبيلة أو الحي السكني، لن يصعب تحديد مكانه وتحييده عن طريق الأهالي أو السلطة. لكنْ، بوجود أمواج عاتية ومتزايدة يوميا من المهاجرين الفارين من الحروب والمجاعة و الاقتتال و المغايرين في الخلق والقيم و الأهداف، ستكون محاولة ضبط الأمن في مدينة مثل نواكشوط هاجسا من هواجس الخيال. نفس الشيء بالنسبة لمحاربة البطالة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بسائقي و ملاك سيارات الأجرة و البنائين و خدام المنازل و المطاعم و الفنادق و خريجي معاهد التكوين المهني…
الإجراءات التي تحاول الحكومة منذ وقت اتخاذها في الموضوع، لن تكون مجدية إلا بخطة محكمة و جهود و معجزات بشرية و مالية و تقنية خارقة و تنسيق شعبي و إقليمي ودولي صادق. فلو انخرط الموريتانيون بأكملهم في الجيش و الدرك والحرس و الشرطة، هل سيتمكنون من حماية حدودهم من جهة الصحراء الكبرى و المحيط الأطلسي و النهر. هذا الأخير الذي قال فيه اكلوز فيتش: “إن نهرا محصنا بشكل فعّال نادر في التاريخ”. كما أن نواكشوط، التي تحتوي على أزيد من ثلث المواطنين، مدينة ضعيفة بموقعها و تركبة سكانها و فوضوية عمرانها.
الاهتمام الدولي المتزايد والغامض بالمنطقة:
“إن الأرض دائما ثمينة عندما تكون خالية أو قليلة السكان”. هذه المقالة المأثورة عن استراتجيين وخبراء كبار في العلاقات الدولية، لا توحي بأن القوى الدولية والإقليمية ستهمل أو تتورع عن الأراضي الشاسعة التي تخضع لسيادة موريتانيا أو النيجر أو مالي…
فموريتانيا التي تبلغ مساحتها 1.030.700 كيلومترًا مربعًا، لا يسكنها سوى 3 ملايين نسمة وتتصاعد فيها مؤشراتُُ النفط والغاز والذهب و اليورانيوم، إضافة إلى كونها، كما يصرّح الغربيون، أصبحت وجهة جديدة و مَعْبرا رئيسا لتنظيم القاعدة و عصابات تهريب المهاجرين السريين و تجار المخدرات والسلاح… تخضع سلطتها وجيشها ونُخَبها ومواطنوها لضغوط دولية وتحرُّشات أجنبية فظيعة ومتصاعدة.
في لقاء احتضنه مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية حول “ديناميكية الإرهاب في شمال إفريقيا” يوم 17 فبراير 2010، قالت نائبة كاتب الدولة الأمريكي في الدفاع، المكلفة بإفريقيا فيكي هودلستون: إن بلدان الساحل لا تستطيع لوحدها مواجهة تهديدات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، مؤكدة أن الولايات المتحدة تعمل على دعم هذه البلدان في مجال التنمية ومحاربة الإرهاب. وأبدت هودلستون مخاوفها من التهديدات المتزايدة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في منطقة المغرب العربي والساحل، قائلة إن السكان المهمشين في دول المنطقة يشكلون فريسة سهلة للتجنيد من قبل تنظيم القاعدة.

و قالت إن هذا التنظيم يلجأ بشكل متزايد للاتجار في المخدرات لتمويل عملياته.
لقد رأى البعض في هذه التصريحات و غيرها بعض الإشارات الدالة على قرب حدوث تغيرات كبرى في نظرة المجتمع الدولي إلى هذه المنطقة التي تشكل واجهة أمنية لضفتي البحر الأبيض المتوسط:

1. أنه إذا كان تسليح المجموعات الهامشية و القبائل سهلا على المجموعات المذكورة أعلاه، فهو أسهل على القوى العظمى و الدول المجاورة و شركات النفط العملاقة.
2. عجز بلدان المنطقة عن محاربة الإرهاب أمر بديهي، لكن المقصود من وراء ذكره الآن هو التلويح الأمريكي بأن فرنسا، صاحبة النفوذ تقليديا في المنطقة، لن تستطيع ضبط الأمور بوسائلها الاقتصادية و التقنية الذاتية.
3. أنه إذا ما صدقت معلومات ونُبُؤات الدراسات الجيولوجية والإستراتيجية العديدة، والتي تؤكد وجود احتياطات من الغاز والنفط و الذهب و اليورانيوم في المنظقة ، فإن أهمية المغرب العربي و الساحل ستضاهي أهمية الشرق الأوسط، الذي لم يعد فيه حَيّز لوجود أجنبي إضافي.
الاكتشافات التي تقوم بها مختلف الشركات والتي ستؤكد – حسب الخبراء – احتياطيات هامة في السنوات المقبلة في حوض تاودني و المنطقة البحرية العميقة من الحوض الساحلي، كلها أمور ستجعل من هذا البلد بلدا آخر. و بفضل موقعها المحاذي للمحيط الأطلسي، فإن موريتانيا توجد على مقربة من الأسواق الكبرى المستهلكة للنفط. حيث تصل الناقلات موانئ أوروبا الغربية في أقل من عشرة أيام و موانئ الساحل الشرقي الأمريكي في أقل من ثلاثة أسابيع دون عراقيل جيوسياسية.
يضاف إلى هذا كله بُعدٌ آخر، في غاية الأهمية والأثر على مستقبل الصحراء وقيمتها. و هو أن الشمس أصبحت – برأي الكثير – مصدرا رئيسا للطاقة في المستقبل. و عندنا في هذا الصدد، المشروع المغربي ذو البعد الدولي، الذي يسعى إلى امتلاك التكنولوجيا الحديثة المعتمدة في مجال الطاقات البديلة الصديقة للبيئة وتوسيع استعمالها في بقية دول المغرب العربي، خاصة موريتانيا التي سيجري ربطها مع شبكة مغربية، مرتبطة بدورها بالشبكة الكهربائية الأوروبية.
فقد أعلن المغرب عن البدء في أكبر مشروع للربط الكهربائي عبر الطاقة الشمسية، و تمتد منشآته على مساحة عشرة آلاف هكتار. و سيمكن المشروع من توفير ما يوازي مليون طن من البترول سنويا و تجنب انبعاث 7 ر3 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون. وفي حدود 2020 ستكون جميع احتياجات الدار البيضاء من الطاقة الكهربائية، مستمدة من هذا المشروع.
في حالة نجاح استعمال الطاقة الشمسية على قطاع واسع – و هو أمر يسرُّ العديد من قادة و علماء العالم لعدم إضراره بالبئة – ستكون موريتانيا وقتها من أهم بلدان العالم المصدرة للشمس.

الصراع العرقي ظاهرة كونية:
على الرغم من الأخوة والارتباط الوثيق بين طوائف المجتمع الموريتاني المسلم، إلا أن ردَّات فعل الشعوب لا تأتي أبدا بـ “شكل واع”، خصوصا المتخلِفة منها، التي غالبا ما تأتي ردة فعلها على شكل أقوال و أفعال عنصرية، خصوصا في وقت الأزمات و المناسبات الانتقالية و الانفلاتات و حالَ ضعف الدولة و مؤسساتها. ثم إن مِيزَة “وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم منْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ”، لا تُنال إلا في جنة المأوى.
و في هذا المعْنى، ستتراءى أمامنا نظريات و معطيات سياسية معاصرة، لا يمكن تجاوُزها، لِما لها من تأثير على الأشْكال و الأدوات التي أصبحت تُبنَى بها الظاهرة السياسية في عالم اليوم، بما في ذلك موريتانيا نفسها.
فعلى المستوى العالمي، دخلت السياسة الدولية مرحلة جديدة، لم يتردد معها مفكرون كبار في طرح تصوراتهم لنهاية التاريخ و عودة التنافس التقليدي بين القوميات. يقول صمويل هانتيجتون في كتابه “صراع الحضارات”: “إن المصدر الأساس للصراع في هذا العالم الجديد لن يكون إيديولوجياً أو اقتصادياً، بل إن التباينات بين الجنس البشري و المصدر المحوري للصراع سيكون ثقافيا. و ستظل الدول القومية أكثر الوحدات الفاعلة في الشؤون الدولية وستكون الفوارق الفاصلة بين الحضارات بمثابة خطوط القتال في المستقبل، ليشكل الصراع بين دول و جماعات ذات حضارات مختلفة آخر مراحل تطور الصراع في العالم المعاصر”.
و بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هذه الطروحات السائدة اليوم، فإن الحقيقة القائمة أمامنا، تفيد بأن الاثنتين و تسعين ومائة دولة (192) و الأعضاء في الأمم المتحدة و المكونة لعالم اليوم، هي “دول قومية”، أي أن كلا منها عبارة عن دولة “الجماعة الشعبية ذات السيادة”. لا يؤثر في ذلك وجود أقليات و هوامش، كما لا يتنافى ذلك مع المقاربات القانونية لمفهوم الوطنية.
و منذ سنوات التسعين من القرن العشرين إلى اليوم، تبيَّنَ أن أغلب الصراعات تنشب على أسس عرقية وثقافية. (الصرب، الكروات، البوسنيون، الألبان، الشيشان، التيموريون، الأبخاز، العراقيون، الروانديون، جنوب السودان ودارفور…).
و في أوربا، يُلاحَظ أن أكثر الشخصيات و الأحزاب السياسية عراقة و اعتدالا في اليمين و اليسار، لم تجد بُدًّا من سرقة خطاب اليمين المتطرف، إرادةَ الحصول على أصوات الناخبين الأوربيين الناغمين على المهاجرين والخائفين من تغيير الوجه الحضاري لبلادهم. (فرنسا، هولندا، ألمانيا، إسبانيا، الدنمرك… وأخيرا السويد).
يضاف إلى ذلك كله، أن الدول المجاورة لموريتانيا، لها – بشكل أو بآخر – مرجعيات حضارية محسومة، بغض النظر عن نسبة الهوامش فيها والأصول العرقية لحكامها. فمرجية الدولة والشعب في السينغال “وُولْفِية” ومرجعية مالي “بمبارية”، على الرغم من وجود ثقافات وأعراق مغايرة. وإذا نظرنا إلى المغرب و الجزائر، فإن للدولتين مرجعية عربية لا جدال فيها، على الرغم من كثرة الحضور والنشاط الأمازيغي فيهما.
أما في موريتانيا، حيث ساحة الفعل السياسي و الإعلامي مفتوحة إلى حد الفوضى، فقد أصبحت الدعوات العصبية و الطروحات العرقية أكثر فاعلية وأقدر على تحصيل قواعد شعبية وَفية و مجاَّنية من الطرح الوطني التقليدي، الذي صار ضربا من ضروب المجاملة و البروتوكول الرسمي و لا يشغل بها نفسه إلا بعض من ساسة البيضان الهواة.

أيُّ قضية تحملها نُخَب البيضان؟
بلغت المادة السياسية التي تنتجها طبقة البيضان السياسية درجة من العقم و الملل و التكرار غير مسبوقة.
فعلى سبيل المثال، ظن الظّان أن مشروعا وطنيا عملاقا يتحقَّق أو في طريقه إلى التحقق، عندما أطل علينا زعيمان سياسيان كبيران يوم 14 فبراير 2010 ليقولا إن التشكيلات المكونة لمنسقية المعارضة اتفقت، بعد ما يزيد على شهرين من الشد و الجذب، على شكل القيادة الجديدة لهذه المنسقية.
و قبل ذلك بيومين، وقعت خلافات حادة داخل الأغلبية بلغت حد الشجار البدني بسبب التنافس على أشياء تافهة كما ذاع. لتتوالى بعد ذلك الجلسات و المؤتمرات الصحفية و البيانات التي تخبرنا بأن منسقيات للأغلبية و أخرى للمعارضة قد تأسست أو اجتمعت.
فماذا سينسِّقون؟ و هل مِن فرق بين الساسة المحترفين و الساسة الهواة، سوى انشغال الطائفة الأولى بما يلامس وجدان الناس و مصائرهم في العمق، بينما لا تمارس الطائفة الثانية السياسة إلا من أجل إضاعة الوقت بعد التقاعد و للثرثرة حول ما يتناثر من مائدة الأحداث اليومية و للبحث عن الوظائف و العناوين و الرفاهية الزائدة؟ و لصالح مَنْ ستكون إضاعة الوقت؟
الطبقة السياسية الزنجية ونخَبُهم المثقفة، و كذلك بعض نشطاء الحراطين “المُتزنِّجين” و غير المتزنجين، عندهم قضايا سياسية واضحة و محددة إلى حد كبير وتحظى بقواعد شعبية ثابتة تلتفُّ حول رموز وشخصيات أبعد ما تكون عن المجاملات والرفاهية وإضاعة الوقت، مما جعل أصوات الواعين من بني جلدتهم لا تَحيدُ عنهم إلا لِماما.
مقابل هذا كله، تفتقر الفئة الأخرى من البيضان إلى الرمزية السياسية و رجال يُعتبرون من قِبَل الوسط الاجتماعي الواسع حلا مقبولا، يحملون قضية محددة قادرة على استنهاض وتوحيد جماهير عريضة حول خطاب سياسي محدَّد، يتجاوز الجهة و القبيلة و المنفعة الشخصية…

نواكشوط مقبرة البيضان:
تؤثر المواقع الجغرافية و الأجواء الطبيعية على أبدان البشر و قرائحه و تكاثره و نفسياته تأثيرا يفوق تأثير الهيروين على الأعصاب. فالبَعوض و حمَى الملاريا و الرطوبة و الملوحة والتعفنات، مؤثراتٌ طبيعية لا تقاومها و لا ترتقي معها المخلوقات الصحراوية الصرف، كالبيضان و الإبل و الغزلان… و تلك هي مميزات مدينة نواكشوط التي يدَّارك فيها الموريتانيون يوما بعد يوم.
يضاف إلى ذلك أن المجتمعات الصحراوية جامدة بطبعها وصلبة، أي أنها لا تتفاعل صحيا مع الأجسام الاجتماعية المائعة، مثل مجتمع نواكشوط الذي يغزوه كل يوم شَعبٌ قادم من مشارق الأرض ومغاربها، مما جعلهم أجانب في عاصمتهم.
و لمعرفة تأثير هذا على ذاك، يكفي أن نقارن بين ما أفرزه مجتمع البيضان، على رمال الصحراء و في أصعب الظروف، من المؤلفات الهائلة و الإبداعات و الأعلام والطبائع من جهة، و بين سلوك وأهداف و هواية مَن يولد من البيضان و يترعرع في مدينة نواكشوط، دون تأطير أو سَنَد مرجعي و فرجة تربوية من خارج هذه المدينة من جهة أخرى.
يقول أحد المؤرخين الموريتانيين الكبار: (..) نعَمْ.. لم يكن يُنتظر من أهالي قطر قَصِيٍّ، فرضت أوضاعه المناخية على قاطنيه حياة الظواعن و النظام العشائري البدائي، إسهامٌ ذو بال في إثراء المعارف. و جاءت المفاجأة بتغلب هذا الشعب على التحدي الذي رمَتْه به الأقدار. فأصبح المجموعة الفريدة من بين الرُّحَّلِ التي احتضنت تقاليد ثقافية مكتوبة أكسبته شخصية متميزة تضاهي النظائر التي عاصرتها في سائر أرجاء العالم الإسلامي (..).
لكنه، و خلافا للواقع، بلغ إحباط البيضان و خيبة أملهم في بلدهم و سياساتهم و تعاملهم فيما بينهم و عدم مبالاتهم بالدولة و الإدارة و الحضارة حَدًّا أصبحوا معه يسبُّون أنفسهم يوميا و يشتمون عرقهم و أصولهم و يحكمون على أنفسهم بالتخلف الأبدي و كأن ذلك في جينات هذه المجموعة البشرية بذاتها. وهذا هو الخلطُ بعينه.
فلماذا لا يميز الموريتانيون بين دولة أو مشروع سياسي يحمل منذ إنشاءه أو مَنْحه عوامل حقيقية للتعثر و الفشل، و بين مجتمع لم يجد يوما فرصة لتحديد مصيره و اختيار شكل دولته و مكانها و زمانها و تركبتها؟
إن السؤال الوارد من وراء هذا كله هو: كيف نراجع مشروعا وطنيا أثبتت الخمسون سنة الماضية أن الحلول التقليدية فاشلة حِيالَه؟ و أيهما أولى بالإنقاذ على حساب الآخر: الدولة أو المجتمع، وذلك عندما يكون كل منهما على شفا الانهيار ويتعذر إنقاذ الاثنين؟
هل مِنْ حِسٍّ استباقي عند هذا الشعب أو عند سلطته أو جيشه أو نخَبه؟ و هل مازال لأيٍّ من هذه الفئات المذكورة أعلاه قدرة على التحرك باستقلال و التأثير على ما يدور؟ أم أن الكل صار رهينة لأوضاع و حسابات أكبر منه و من البلد و المنطقة كلها؟
أيُّ مشروع و أي برنامج تخطط له القوى الدولية و الإقليمية في المنطقة؟ و أيُّ مركز سيحتله هذا الكيان في العملية و أيُّ قطعة من الصحراء الكبرى ستُقتطع للبيضان؟
هل عاد مشروع دولة البيضان أو دولة الصحراء الكبرى إلى الواجهة؟ و هل ستشكل “الدولة العرقية” بديلا عمليا لدويلات وطنية أثبتت فشلها في المنطقة؟ و هل ستشكل هذه الدولة حَلا فعَّالا لما عرفته المنطقة و تعرفه من فراغات جغرافية و توتُّرات سياسية و اضطرابات ميْدانية؟
بالإضافة إلى سؤالات أخرى واردة و مشروعة حول مواقف القوى الدولية و الإقليمية و كذا مواقف القوى السياسية و الاجتماعية الداخلية من هذا و ذاك؟